الوحدة والتعددية في الاقتصاد

00:19 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

داخل منظومة الاقتصاد الوطني الواحد - أيِّ اقتصاد وطني - تتجلّى فاعلية كل من ديناميتي الوحدة والتّعدد على صعيدين: على صعيد مكونات ذلك الاقتصاد، وعلى صعيد القوى التي تُدير وحداته وتُنتج معطياته. ما من اقتصادٍ في العالم ليس موضوعَ فاعلية هاتين الديناميتين، أو لا يكون محصلة لها، أيّاً يكن المبدأ الذي عليه مبناه: رأسمالي، اشتراكي، دولتي... إلخ. الفارق الوحيد بين الاقتصادات - وهو ليس هيّناً على كل حال - هو غلبة دينامية على أخرى تبعاً لنوع المبدأ الذي يقوم عليه نظام الإنتاج، ولمدى العلاقة التي تقوم بين الدولة وعالم الإنتاج...

في اقتصادات بلدان العالم، اليوم، تشكيلة من القطاعات الاقتصادية؛ أي من النظم التي تتباين بتبايُن القوى التي تشرف عليها، وتمتلكها: القطاع العام، وهو تابع للدولة ومن أملاكها العامة، والقطاع الخاص الذي تعود ملكية مؤسساته إلى خواص، ثم القطاع المختلط الذي يتألّف من النموذجين السابقين. من النّافل القول إن قطاعاً بعينه من هذه القطاعات تعود إليه السيطرة في نظامٍ اقتصادي ما حتى مع وجود غيره. غير أن سيطرة قطاعٍ ما، في اقتصادٍ ما، لا تعني أن غيره من القطاعات شكليٌّ أو رمزي أو عديم القيمة؛ فلقد تكون مساحته من بنية الاقتصاد واسعة، وقد يغطي مجالات من الإنتاج والخِدمات هائلة، ويوظف من القوى العاملة الكثير. السيطرة، بهذا المعنى، علاقة نوعية لا كمية بحيث تقبل الحساب العددي. في كل حال، ما من اقتصاد في العالم خلاَ من تواجد هذه القطاعات جنباً إلى جنب حتى حين يكون النظام الاجتماعي- الاقتصادي السائد مقترناً بمذهب معين وهندسة إيديولوجية معينة...

قد يقال إن دولاً كانت «اشتراكية»، مثل الاتحاد السوفييتي ودول شرق أوروبا والصين وفيتنام وكوبا، لا يوجد فيها قطاع خاص، لأن الاقتصاد ووحدات الإنتاج فيها مملوكة للدولة (وأن هذا عينه ما أخذت به دول من الجنوب قامت فيها أنظمة وطنية مثل مصر الناصرية في إطار ما عُرِف بالتأميمات). وفي القول هذا مبالغة كبيرة؛ إذ ما كان التدخل الدولتي في الاقتصاد والإنتاج شاملاً كل شيء إلى الحد الذي يقطع فيه كل إمكان لنشاطٍ إنتاجي خاص؛ بل كانت ملكية الدولة لمؤسسات الإنتاج الكبرى ومرافق الاقتصاد الاستراتيجية أكثر من غيرها.

لا يشبه هذه الرواية المزعومة (عن غياب نشاط اقتصادي خاص - أو حر- في البلدان المحكومة بأنظمة اشتراكية) في زعمها سوى تلك التي تقول - في المقابل - إن الملكية خاصة والاستثمار للخواص والسلطان للقطاع الخاص. ليس صعباً الوقوف على مَواطن الزّيف في هذه الرواية؛ يكفي العودة إلى أكبر الاقتصادات الرأسماليّة الغربية (في الولايات المتّحدة وبلدان أوروبا)، لاكتشاف المساحة الهائلة التي يشغلها القطاع العامّ المملوك للدولة في هذه الاقتصادات الليبرالية.

ندور في هذه الأمثلة على حقيقةٍ واحدة: الاقتصاد، مثل السياسة، ميدان لاشتغال آليتي التوحيد والتعددية حتّى في الحالتين اللتين تترجح فيهما كفة واحدة على الأخرى. والآليتان تعملان، في الغالب، من غير اصطدامٍ بينهما إن تُرِكَتا من غير تدخل من خارجهما، ولكنهما قد تصطدمان في الأحوال التي تسعى فيها قوى القطاع العام والقطاع الخاص إلى تحجيم الواحد منهما الآخر، وبالتالي، الحلول محله. ولقد شهدنا على مثالات لذلك في عمليّات تفكيك الاقتصاد الدولتي والقطاع العامّ - امتثالاً لأوامر «صندوق النقد الدولي» و«البنك الدولي» - في بلدانٍ عدّة من الجنوب. 

 لا شيء يمنع أن يتخلل الاقتصاد الوطني تعدّد في التكوين في ظل نظامٍ اقتصادي موحد. وهذا ما ما نجحت فيه الدولة الحديثة في مناسبات عدة مزجت فيها بين مبادئ ليبرالية صرف وأخرى دولتية معاكسة. وهذا الذي نجحت فيه الدّولة الحديثة شهد على تجسيدٍ أضخم له في سياسات دولة عظمى مثل الصين، حين استعادت سيادتَها على جزيرة هونغ كونغ؛ أي على جزءٍ من كيانها ظل خاضعاً للاحتلال البريطاني وللنّظام الليبرالي في طبعته الرأسماليّة المالية. لم تغير الصين ذلك النظام الاقتصادي المطبّق في الجزيرة، بل أَبْقَت عليه وأدارت، بنجاح، اقتصادين مختلفين على قاعدة: دولة واحدة بنظامين اقتصاديين. وهي، بهذا، أقامت دليلاً جديداً على جدلية الوحدة والتعددية في الاقتصاد.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/a4h445rv

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"