عادي
الصالونات الأدبية.. فيالق الحالمين

تقليد تنويري يكتفي بـ «الوجاهة»

23:40 مساء
قراءة 6 دقائق
صالون نسائي من القرن السابع عشر للفنان إبراهام بوس

القاهرة: وهيب الخطيب

اشتكى المفكر والناقد الإيطالي الراحل إمبرتو إيكو يوماً من مواقع التواصل الاجتماعي، قائلاً بأنها تمنح حق الكلام ل«فيالق الحمقى»، الذين يتحدثون ويثرثرون في كل شيء. وتأتي «الصالونات الأدبية» بعكس ذلك تماماً، فهي رئة للحوارات والنقاشات الرصينة حول الكتب ومختلف القضايا الثقافية، وبعد فترة طويلة من شبه غياب تلك الصالونات، نتيجة شيوع مناخ تأثر بقوة بغزو ثقافة «فيالق الحمقى»، ها هي الصالونات تنشط مرة أخرى، وكأن البشر في حاجة إلى التواصل الحقيقي المثمر الخلاق، وها هم من يقفون وراءها أشبه بفيالق من الحالمين الذين يبحثون عن كل ما هو جدّي وينفع الناس، فربما يستعيدون زمناً كانت فيه تلك الصالونات من أهم مفاصل النهضة الأدبية والثقافية.

الصالونات الثقافية تقليد نشرته الحركة الثقافية الفرنسية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولا يزال حاضراً في ثقافتنا حتى اليوم؛ هو تجمع ثقافي يعقده مضيف، في الأغلب اتبعت هذه التجمعات بوعي تعريف الشاعر الروماني هوراس لأهداف الشعر، «إما للإرضاء وإما للتثقيف».

ظهر الصالون لأول مرة في إيطاليا في القرن السادس عشر، ثم ازدهر في فرنسا طوال القرنين المشار إليهما سابقاً، واستمرت في الازدهار في إيطاليا طوال القرن التاسع عشر.

في الأغلب كانت ترعى الصالونات امرأة جميلة ومتعلمة مثل إيزابيلا ديستي أو إليزابيتا جونزاجا، وقادت النساء العديد من الصالونات المبكرة في أوروبا، ما أوجد منفذاً مهماً للأصوات التي ربما لم تكن لتسمع.

ترصد الدراسات وكتابات التاريخ الأدبي، أشكالاً قريبة من الصالونات في الحضارات القديمة كما هي الحال عند المصريين القدماء والبابليين، كما اهتم الإغريق بمثل هذه التجمعات الثقافية، والالتفاف حول الغناء وقراءة الشعر في أماكن محددة. وفي عصر ما قبل الإسلام، اشتهر سوق عكاظ، وقد كان منصة ثقافية عند العرب، ثم عرف العرب المجالس الأدبية.

إنها باريس

في خريف عام 2003، انتقلت معلمة من كاليفورنيا تُدعى توبي براذرز، إلى باريس للعمل مع زوجها. الرومانسية في هذه الخطوة بالنسبة لتوبي كانت في البقاء لأيام على طول نهر السين، وسرعان ما طغت عليها حقائق اندماج نفسها في ثقافة جديدة، وتعلم لغة جديدة، والاستقرار في مدينة جديدة.

في إحدى الأمسيات، أدى لقاء بالصدفة في حفل كوكتيل إلى مناقشة متعمقة حول شغفها بالتدريس، وثار سؤال ماذا تفعل بصفتك مدرساً للأدب لاحتضان بيئتك الجديدة في واحدة من أكثر مدن العالم ثقافةً؟ هنا لمعت في ذهنها فكرة إعداد صالون أدبي، إنها باريس الملهمة.

وشهدت الصالونات اليوم نهضة، ربما كانت بمنزلة رد فعل ضد تراجع الاتصال البشري وجهاً لوجه في عصرنا الرقمي. وتشير هذه التجمعات إلى الحاجة العالمية إلى التفاعل الشخصي والتمارين الذهنية؛ إذ تسمح للناس بالالتقاء، لزيادة معرفتهم، وصقل أذواقهم من خلال المحادثة، وتبادل الأفكار، والسماح بالنقاش وإذكاء العاطفة والإلهام.

الصالونات تبادل حر للقصص والأفكار، نقاش مفتوح للموضوعات الأدبية والفنية، دعوة للقراءة، وانطلاقاً من هذا، أنشأت الكاتبة المقيمة في نيويورك فيكا ميلر صالوناً للوسائط المتعددة في عام 2009، أي قامت بإنشاء صالون رقمي، استغلالاً للتكنولوجيا الفائقة التي بتنا نعيش في عصرها.

كانت فكرة ميلر تقليد صالونات باريس، وخاصة صالون جيرترود شتاين في العشرينات من القرن الماضي، مع كتّاب يقرؤون من عمل جديد وسط الفن المعاصر، «عنصر الوسائط المتعددة مهم بالنسبة لي، لأنني أحب مثل هذا التآزر، ويتواصل الأشخاص على مستوى مختلف، لأن سماع قصة جيدة تُقرأ بصوت عالٍ على خلفية من الفن المذهل، هي تجربة فائقة» كما تقول ميلر في إحدى التقارير الصحفية.

وعربياً، أسس الشاعر زين العابدين فؤاد صالوناً افتراضياً، يمكن متابعته عبر «يوتيوب» أو «فيسبوك»، ويسعى فؤاد، من خلال الصالون، إلى توثيق تاريخ وطن يحلم ويرسم، كما يقول ديوانه الشهير «وش مصر». ويعالج قضايا التاريخ الوطني لمصر والمسكوت عنه في ثقافتنا عبر استضافة متخصصين يناقشون بحرية، وبلا قيود كل الأفكار، ويتقبلون النقد.

وعقد صالون فؤاد، عشرات الندوات التي بثت عبر وسائط «السوشيال ميديا»، وتناولت مسيرة المفكر نصر حامد أبو زيد، والناقد الكبير سيد إمام، ونجيب محفوظ، وطارق إمام، وحمدي أبو جليل، وغيرهم من الكتّاب والأدباء.

أسماء

تكثر الصالونات الثقافية في القاهرة، ونعتقد أنه من الصعوبة بمكان أن يحصر تقرير واحد هذه الصالونات، لكن يمكن التوقف أمام أبرز النماذج، أولها صالون المعادي الثقافي، الذي أسسه الطبيب وسيم السيسي عام 1990، وهو واحد من أبرز الصالونات الثقافية، التي يجري خلالها تبادل النقاشات حول المواضيع المختلفة سواء سياسية أو ثقافية، مثلاً ناقش الصالون مؤخراً «المؤامرة على الشرق الأوسط»، كذلك «عوامل تكوين الغرب حتى نهاية الحرب العالمية الثانية».

الطبيب وسيم السيسي أستاذ جراحات المسالك البولية، وباحث في تاريخ مصر القديمة، ومعروف بانحيازه للتاريخ القديم «ومصر الفرعونية»، ويعد صالونه حالياً من الصالونات «المُعمرة»؛ إذ يزيد عمره على ثلاثة وثلاثين عاماً.

في قلب القاهرة أيضاً، يوجد صالون هالة البدري، الروائية المصرية الحائزة جائزة الدولة التقديرية في الآداب في 2023، ويعقد على نحو شهري، ويهتم بمناقشة الأعمال الأدبية والإصدارات الحديثة.

ومن اللافت أن تكون المرأة الأديبة ذات الدور الأبرز في هذا المجال، ربما لأنها في الكثير من المراحل التاريخية حُرمت من المشاركة في الحراك الثقافي، فآثرت أن تستدعي رجال الفكر والأدب والفن إلى صالونها، كي تدلي بدلوها في هذا الشأن أو تلك القضايا، منذ صالونات بداية القرن العشرين.

ومنذ نحو العامين، أسس صالوناً ثقافياً في منطقة الجمالية بالقاهرة التاريخية، على أن تعقد جلساته أيام الجمع وبدءاً من ال9 صباحاً وحتى ال11.30 ظهراً، وهو بمبادرة من الكاتبة والشاعرة مي مختار، لإعادة هيبة المكان الثقافية في لقاء شهري بمقهى الفيشاوي الشهير.

وصالون الفيشاوي يعيد إلى الأذهان الصالونات الثقافية المرتبطة بالمقاهي، كمقهى كازينو صفية حلمي بالأوبرا الذي كان نجيب محفوظ يعقد فيه لقاءً أسبوعياً، ومقهى ريش الذي تأسس في 1908، وارتبط باسم محفوظ ثم بجماعة «جاليري 68»، من أبناء الستينات الذين أعدوا لصدور مجلة «جاليرى» من هناك.

ناشئة

هناك أيضاً صالون إدراك الثقافي المعني بالناشئة، والذي أسسته منة الله عزوز، وسبق أن صرّحت أن فكرة تأسيس الصالون كانت بسبب أولادها، رغبة منها في إيجاد الكيان الثقافي الذي يجمعهم مع أصدقائهم من المدرسة والنادي للقراءة والتعرف إلى المجالات الأدبية.

وبحسب منة الله عزوز، فإن أكثر الموضوعات والأنشطة المفضلة لدى رواد الصالون، من الشباب والمراهقين، هي جلسات القراءة والنقاشات التي تتم بعدها، ونادي سينما إدراك الذي يتيح مشاهدة الأفلام ومناقشتها.

ومع هذا الحضور للصالونات، لا يخفى على كثير من المتابعين بعض الملاحظات التي يمكن أن تكشف إلى أي مدى تلعب هذه الصالونات دوراً في الحياة الثقافية. ويرى البعض ما يمكن تسميته ب«هيمنة صاحب الصالون أو مؤسسه»؛ إذ هو من يحدد الضيوف للحوار، وهو من يختص نفسه باختيار القضايا، وهو من يسيطر على إدارة النقاش، أو يكون الحوار حسب توجهاته ورؤيته. ما ينتج ثقافة في تجاه واحد، ضحلة المنبع، لا تجديد ولا إثارة ولا تجريب فيها. كما أن البعض استخدم الصالون الثقافي للترويج لمرشح سياسي ما، مقابل مصالح شخصية.

وهي ملاحظات تضاف إلى ما سبق أن رصدته تقارير صحفية؛ مفادها أننا نجد أن صاحب الصالون هو المستأثر بالحديث فيه، وهو الذي يختار المتحدثين حسب الأعلى مكانة، على الرغم من أن أدبيات المجالس، تقول: يبدأ الحديث من طلب ذلك أولاً. ولا تخلو بعض الصالونات الأدبية من السعي وراء الوجاهة الاجتماعية، أكثر من الثقافة.

والسؤال الذي لابد من طرحه، لمعرفة جوهر دور الصالونات الثقافية، هو لماذا تعنى الصالونات بمناقشة الكتب والإصدارات أكثر من مناقشة القضايا الفكرية؟ وإذا انصب نشاط الصالون على مناقشة الأعمال، فما الذي يجعل الصالون مختلفاً عن المنتدى الأدبي؟

تشهد القاهرة مثلاً منتديات أدبية عدّة، كمنتدى المستقبل، ومنتدى الشعر المصري، ومنتدى صدى ذاكرة القصة، وغيرها، فضلاً عن مراكز ثقافية وأدبية ومقرات دور النشر، وجميعها يُعنى بمناقشة الأعمال الأدبية والنقدية.

غياب

إن غياب طرح القضايا الفكرية في الصالونات ليس إلا إشارة إلى غياب تصور أرباب بعض الصالونات عن هدف الصالون الثقافي، الأمر الذي يحيله إلى «مقر» لعقد نقاشات حول الكتب، ومن ثم لا يميزه عن أي منتدى سوى أنه في الأغلب يحمل اسم كاتب أو أديب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2ay32a3a

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"