عادي
الصالونات الأدبية.. فيالق الحالمين

طاولة واحدة للكُتّاب

23:36 مساء
قراءة 7 دقائق
جلسة في صالون مدام جيوفران في القرن الثامن عشر
6629936-1745614136

الشارقة: أشرف إبراهيم

اشتكى المفكر والناقد الإيطالي الراحل إمبرتو إيكو يوماً من مواقع التواصل الاجتماعي، قائلاً بأنها تمنح حق الكلام ل«فيالق الحمقى»، الذين يتحدثون ويثرثرون في كل شيء. وتأتي «الصالونات الأدبية» بعكس ذلك تماماً، فهي رئة للحوارات والنقاشات الرصينة حول الكتب ومختلف القضايا الثقافية، وبعد فترة طويلة من شبه غياب تلك الصالونات، نتيجة شيوع مناخ تأثر بقوة بغزو ثقافة «فيالق الحمقى»، ها هي الصالونات تنشط مرة أخرى، وكأن البشر في حاجة إلى التواصل الحقيقي المثمر الخلاق، وها هم من يقفون وراءها أشبه بفيالق من الحالمين الذين يبحثون عن كل ما هو جدّي وينفع الناس، فربما يستعيدون زمناً كانت فيه تلك الصالونات من أهم مفاصل النهضة الأدبية والثقافية.

الصورة
2

سماء الأدب لا تُحدّ، وظلالها أبداً ممتدة في المشهد الإبداعي، ودائماً يشعر الأدباء والكتاب والشعراء ومحبو القراءة بالحنين للقاءات تتسع وتصبح فيها المشاركة الجماعية لحظة فارقة، ومن أشكال هذه المشاركات الصالونات الأدبية التي سجلت حضوراً في المحيط الثقافي، فهل استطاعت مثل هذه الصالونات أن تشكل حركة، وأن تضفي اهتماماً لمسيرة الأدب وكتّابه ومحبّيه؟ وهل قطع بعضها حبل العزلة بين الأدباء، فبث من خلال اللقاءات المباشرة ألفة وإحساساً بدفء الكلمة والفكرة في أثناء مناقشة كتاب أو قضية أدبية تحتمل التأويل، وتخضع لعدة تفاسير.

ماذا عن الوجوه التي تستقطبها مثل هذه الصالونات؟ وكيف يديرها مشرفوها ومن ثم العمل على دعوة فئات من المثقفين والكتاب والمبدعين في مشهد أدبي متقلب طغت فيه وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الثقافية الافتراضية؟.

من ضمن أوائل الصالونات الأدبية التي حافظت على الاستمرارية والديمومة صالون «الملتقي الأدبي» الذي أسسته أسماء صديق المطوع، والتي ترى أنه في جلسة واحدة يجتمع فيها الأدباء وأصحاب الفكر والمثقفين تنشط حركة فكرية أخرى في محيط الحياة، إذ تصبح للناقشات دور في استدعاء ذاكرة العقل المثقف، وتضفي على الحضور بهجة التواصل، فهي ضرورية - على حد قولها - في هذا العصر حتي لا يصبح الكاتب مجرد اسم على ورق، فمهمة الصالونات أن تقتحم عوالم الكتّاب، وتناقش أفكارهم، وتثير قضاياهم، وهذا يتحقق من خلال اللقاءات المباشرة التي تتسم بالصفاء، إذ من وسط الضجيج الذي تخلقه المناقشة الخالية من الهوى الشخصي تتولد المعرفة، وفي كل لقاء تتجدد فكرة وتصعد قضية أدبية إلى ذروة النقاش، وتكتمل منظومة لا تجعل الأسئلة مثل حبال معلقة، لكونها تبحث عن إجابات مقنعة تجدد المعاني وتغري بتوثيق الصلات بين أفراد الصالون الواحد، وهي على قناعة بأن اللقاءات التي تعقد في أكثر من مرة في الشهر تنشط حركة الحوار الفكري، وتصنع معرفة أخرى.

ولا تشعر المطوع بأية غضاضة في أن يكون هناك صالونات أدبية تقام على ضفاف العالم الافتراضي، لأن لكل عصر أدواته وسبله في خلق الأجواء الثقافية الممتعة، لكنها تفضل تلك الأجواء التي تجعل تلك الحلقات الفكرية تحت سقف مكان حقيقي مجهز للحوار والنقاش، ويتسع للمداخلات، فالصالونات الأدبية تتبنّى الحقيقة وتكسر حاجز الفراغ، وتولد إحساساً بأهمية المغامرة التي تفضي في النهاية إلى التصافح الأدبي ومن ثم تفرس الوجوه ليكتمل مشهد في غاية الوضاءة.

من دون فواصل

على الرغم مما تحدثه الصالونات الأدبية من فوارق في جسد الثقافة وتجمع كل أطياف الفكر على طاولة واحدة، فإن الكاتبة عائشة سلطان تشعر بأن أغلبية الصالونات تأسست على أشخاص لديهم حب جارف للقراءة والمعرفة، وأنه قد يغيب عنها الكتاب والشعراء والروائيون بشكل مستمر، إلا في حالة دعوتهم لمناقشة عمل من إصداراتهم، وهي مع ذلك ترى أن حضورهم في كل الأحوال يعد مشاركة من لحم ودم بحيث لا يفصلهم عن القراء والمتابعين حواجز، ولا عن من لديهم أيضاً رغبة في مناقشات جدية لمنجزاتهم أبواب مغلقة، فاللقاءات المباشرة يلتمس الجميع من خلالها الحكمة ويجنون منها ثمرة جهد معرفي خلّاق.

ومنذ انطلاق صالون الكاتبة عائشة سلطان الأدبي في 2020 وهي تمسك بطرف تفاصيل تروي عن بهجة اللقاء، وما أحدثته من تقليص مسافات عميقة كانت تفصل المبدعين عن بعضهم بعضاً، إذ استطاع صالون «المنتدى الثفافي» الذي اختارت له هذا الاسم أن يختبر مدى تعلق المشاركين بالمناقشات دون فواصل، وهو دليل على الرغبة الجماعية في أن يكون هناك هدفا حقيقياً يجمع أعضاء المنتدى في جهة واحدة، تحتضن الأفكار والأحلام ومن ثم الخروج في النهاية بنتائج تعيد الصفاء لعقول وقلوب من يروق لهم حضور جلساته التي تتكرر كل أسبوعين على الأرجح، ومن اللافت أنها كانت تدير فعالياته عبر مواقع التواصل الاجتماعي نظراً لضرورات فرضتها إشكاليات الواقع المتغير، لكنها في الوقت الحالي تقيم أنشطته في عالم حقيقي - بعيداً عن المنصات الإلكترونية الافتراضية - يمتلئ بمشاهد ملونة بالحضور الطاغي من قبل الأعضاء والمشاركين والمدعوين من الكتاب والأدباء، فهي على قناعة بأن الألفة الثقافية تخدم التجربة الإبداعية وتترك أثراً عميقاً في الروح وتكسر حاجز العزلة بين الأدباء، مما يصوغ علاقة مهمة بين الأجيال ويولد في الآن ذاته أفكاراً من شأنها أن تتحول إلى مشروعات أدبية عملاقة، وهو ما لمسته من خلال تجربتها مع هذا الصالون، إذ تحقق على أرض الواقع ما لم يكن في الحسبان، فالقطرات المعرفية- على حد قولها- كونت نهراً دافقاً من الرؤى والتصورات مع مرور الوقت بما يؤكد نجاح تجربة الصالونات الأدبية.

ينبوع

بالنسبة للشاعر أحمد العسم؛ فقد وجد ضرورة في إطلاق صالونه الأدبي «المستطيل» والذي يجتمع فيه الشعراء والروائيون والكتّاب الشباب خاصة، لكونه يعتقد أن صالونه بإمكانه أن يتيح لكل مبدع مشارك أن يروي عن نفسه من خلال هذا الينبوع الأدبي الجميل حتى تظل علاقات أصحاب المواهب موصولة تحت شجرة الألفة، فلا يستقل كل واحد بموهبته دون مشاركة حقيقية، وحتى لا تكون نافذتهم الوحيدة مواقع التواصل الاجتماعي بأزمنتها الافتراضية، فقد تخير العسم مكاناً له قيمة في حياته لإقامة هذا الصالون، حيث استغل جزءاً من بيت والده القديم ليستقبل ضيوفه وهو مسكون بجمالية المكان، فينتظرهم في الشهر الواحد أكثر من مرة، إذ استطاع أن يصل جذراً كان مقطوعاً بين الكثير من أصحاب المواهب الحقيقية، ويرى أن ما يقدمه حالياً من خلال الفعاليات والأنشطة هو واجب يمليه عليه ضميره كشاعر، حيث يكره الشتات، فصالونه الأدبي من وجهة نظره ينتصر للوئام الثقافي، ويجمع الشمل، ويضع هوية حقيقية للتبادل الفكري والنقاش، ومن ثم الاستماع إلى الأصوات المبدعة من دون أن تجد مشقة في إبراز نتاجها الإبداعي، ومن ثم أيضاً الاستفادة من تجارب الآخرين بخاصة عندما تعقد جلسات حول كتاب أو استضافة أحد المشهورين في الثقافة، ليروي في النهاية كل مشارك تجربة، ويترك في جموع الحضور خيطاً من الأمل والحب مشعاً، فالأهداف النبيلة كما يشير هي التي جعلته يحتضن شباب المبدعين، ويقول لهم: «ثقوا باللقاءات المباشرة، ثقوا بالعالم الأدبي الواقعي في زمن انكفأ الكتّاب على أنفسهم وحبسوا ذواتهم داخل جدران عوالم افتراضية لا تحقق البهجة الإبداعية الكاملة»، إذ يبشر هذا المشروع كما يرى بخير كثير، كونه يبرهن على أن اللقاءات الفكرية المفتوحة التي يخاطب فيها الحضور بعضهم بعضاً ووجهاً لوجه هي ما يلائم في فطرة الأديب والمثقف والقارئ المطلع والناقد الحصيف.

أبجديات أخرى

ومما دعا غيث حسن إلى إطلاق «صالون الأدب الروسي» مع عدد من الأصدقاء هو شعوره بضرورة الالتفات إلى أبجديات أخرى في الثقافة العالمية، لأنها كنز عظيم يمكن أن يصقل الكتاب الجدد بمعارف فارقة تلهمهم وتأخذ بأيديهم إلى فضاءات العلم، وتمدهم بوهج أدبي لا يتوقف مداده عبر الزمن، بالإضافة إلى أنه أراد أن يقرب مسافات تبدو هائلة بين الكتاب والمثقفين في هذا العصر، فاجتاز على حد قوله من خلال هذا الصالون الصعب، حيث تم إضفاء فكرة الاندماج في الثقافة بروح الفريق الواحد على أعداد المشاركين الذين هم في تزايد مستمر، نظراً لانجذابهم للصالون ومن ثم تداول القراءات المتنوعة في الأدب الروسي، وكذلك العبور إلى ضفة الحوار حول قضايا فكرية مهمة، وأنه أمام هذا التآلف الأدبي الثقافي أضحى على قناعة بضرورة الصالونات الأدبية في حياتنا المعاصرة، كونها حققت ربحاً أدبياً من الممكن أن يؤرخ له، فمساحة المتابعة لصالون «الأدب الروسي» عبر وسائل التواصل الاجتماعي كبيرة، وعدد المتابعين بالآلاف، غير أنه مع زملائه المؤسسين في هذا المشروع الثقافي أدركوا ضرورة أن يقام الصالون من خلال جلسات يحضر فيها الجميع، وهو ما تتحقق بالفعل مما اسهم في توجيه المشاركين إلى انتقاء كتب مفيدة، ومن ثم طرح قضايا فكرية ودعوة كتّاب لمناقشتهم في أعمالهم الأدبية.

وأشاد حسن بتجربة الصالونات الأدبية الحالية التي تنمو وتتكاثر وهي توزع أضواءها الباهرة في الساحة الأدبية بجمال ورقيّ، فبلغت المقصد وحركت ساكناً في فكر الأدباء وطريقة تعاملهم مع بعضهم بعضاً، وحفزت من لديهم شغف بالقراءة للتواصل مع المبدعين من الكتاب بطريقة تضمن التآلف الخلاق، وكأن الجميع عائلة واحدة ويظلهم بيت واحد.

أسواق أدبية

وينظر مؤلف كتاب «هكذا تكلم القارئ» محمد المرزوقي إلى أن فكرة تكوين صالونات أدبية بصورة مستمرة بمثابة تحقيق أمنية غالية في فترة يكاد يوصد فيها الكتاب والمثقفون ومحبّو القراءة على أنفسهم أبواباً حجبتهم بعض الشيء عن واقع مأمول في الحياة الأدبية التي تستوجب بالأساس أن تكون هناك مشاركة فعالة تمنحهم ألفة التواصل الحقيقي، وتعيد إليهم أسواقهم الأدبية القديمة، وهو ما جعله ينشئ مع بعض الأصدقاء صالون «نادي أصدقاء نوبل»، الذي يُعد في حد ذاته مبادرة لاكتشاف وقراءة الأعمال الفائزة بجائزة نوبل، وفي ظل هذه الفكرة استطاع المرزوقي أن يفسح المجال لتعدد الأنشطة والفعاليات ومن ثم كسر عزلة الأدباء، من خلال لقاءات متعددة ترتبط بمعارض الكتب والمواسم الثقافية في الدولة، بخاصة أن تعدد اللقاءات بين الأعضاء أوجد تنافساً بينهم، وخلق بيئة ثقافية متسعة تشبع الرغبة في قراءة كتب لها وزنها عالمياً، ومن ثم إيجاد أهداف مشتركة بين الأعضاء والمشاركين بعيداً عن المنصات الإلكترونية حتي لا تنفرد وحدها بمثل هذه التجمعات الفكرية، فالمكاسب تكون كبيرة بوجود الصالونات الحقيقية في البيئة الأدبية ومحيطها الثقافي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2wd2mn4y

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"