عادي
لوحة تفوح بالجمال

«قرنفل وزنبق وورد».. الفن موعد مع البهجة

18:16 مساء
قراءة 4 دقائق
1

الشارقة: علاء الدين محمود

الرسام جون سنجر سارجنت (1856 1925) يعتبر أحد أهم الفنانين الأمريكيين في عصره، عاش حياة الاغتراب وتنقل بين العديد من العواصم الأوروبية وأنجز أعماله الرئيسية في أوروبا، ورسم نحو 900 لوحة زيتية وأكثر من 2000 لوحة مائية، بالإضافة إلى عدد لا يحصى من الرسومات بالفحم. توثق أعماله السفر في جميع أنحاء العالم، من البندقية إلى تيرول وكورفو والشرق الأوسط ومونتانا وماين وفلوريدا.

وُلد سارجنت في فلورنسا لأبوين أمريكيين، وتلقى تدريبه في باريس قبل أن ينتقل إلى لندن، تمتع بشهرة عالمية كرسام بورتريه، وأقام أول معرض لرسوماته في صالون باريس عام 1878، حيث عرض إحدى لوحاته في صالون باريس في الثمانينات من القرن التاسع عشر، وهو بورتريه «مدام إكس»، غادر فرنسا بعد عام إلى إنجلترا وواصل مسيرته المهنية الناجحة كفنان بورتريه، ومنذ البداية، اتسم عمل سارجنت بقدرة فنية رائعة، خاصة في الرسم بالفرشاة، والتي أثارت في السنوات اللاحقة الإعجاب وكذلك النقد، وأظهرت لوحات المناظر الطبيعية التي رسمها إلماماً بالمدرسة الانطباعية. وفي مرحلة لاحقة من حياته، كرس الكثير من طاقته للرسم الجداري والعمل في الهواء الطلق، وعلى الرغم من تلك البراعة التي اشتهر بها إلا أن شهرته الحقيقية بدأت في أواخر القرن العشرين.

لوحة «قرنفل وزنبق وورد»، من أشهر أعمال سارجنت، رسمها بألوان الزيت على القماش، في الفترة بين عاميّ 1885 و 1886، واشترتها في عام 1887، مؤسسة النحات الإنجليزي ليجات تشانتري، والذي تحمس لها بقوة بعد أن عرضت في معرض الأكاديمية الملكية للفنون عام 1887، والذي يعد من أهم المنصات الفنية في بريطانيا. حظيت تلك اللوحة بالكثير من الثناء واهتم بها النقاد والجمهور على حد سواء، وتعرض هذه القطعة الفنية الراقية الآن في متحف «تيت مودرن» في بريطانيا. وفي هذا العمل يقدم الفنان مقترحات وممارسات جمالية غاية في الإبداع والتناسق والدقة والأناقة، بحيث تتسرب السعادة والبهجة إلى نفس المشاهد، خاصة أن اللوحة تجمع بين الطفولة والطبيعة المتمثلة في الورود. تنتمي اللوحة إلى اهتمام سارجنت، برسم الطبيعة ورصد الجمال الذي يسكن فيها، كما كان شديد الاهتمام بالمناسبات الاجتماعية بصورة عامة.

*إشراق

في اللوحة تظهر فتاتان ترتديان ملابس بيضاء بسيطة وأنيقة في ذات الوقت، وتقومان بإضاءة الفوانيس في حديقة، وينعكس ضوء شموع المصابيح الدافئة على وجهيهما فيزيدهما إشراقاً وألقاً، وعلى الأرض عشب أخضر ممتد، بينما تنتشر في جنبات المكان أزهار القرنفل ذات اللون الأحمر الداكن والأبيض اللامع، وتظهر في الخلفية، وكذلك في الجزء السفلي الأيمن من المقدمة، شجيرات الورد المتفتحة ذات اللون الأحمر الوردي، وترتفع فوق مستوى رأسي الفتاتين الزنابق البيضاء ذات السيقان الطويلة.

يظهر في مشهد اللوحة حشد من التفاصيل البديعة والجميلة، ويتورط المشاهد في كل ذلك الألق المتمثل في ألوان وأشكال الورود من الزنبق والقرنفل وأنواع الزهور الأخرى، إضافة إلى الخضرة المتمثلة في العشب المتشابك المشرق اللامع، وكذلك مشهد الفتاتين اللتين تبدوان كملاكين صغيرين ينشران البهجة في المكان، وتكمن براعة الفنان في تنسيق كل تلك التفاصيل والتعامل معها بطاقة إبداعية تظهر جماليات كل تفصيل، وكذلك أسلوب توزيع الألوان الهادئة بطريقة متقنة من درجات الأخضر والأحمر والأبيض، ليجد المشاهد نفسه وكأنه أمام مهرجان يبعث على الفرح والسرور، وتلك هي الفلسفة التي يؤمن بها الفنان وهي البحث عن السعادة من أجل بهجة المشاهد.

*إلهام

رسم سارجنت هذه اللوحة البديعة بإلهام من مشهدين، الأول من خلال تأمله في حديقة أطفال في بريطانيا تدعى «فيكرز»، حيث وجد فيها طفلتين هما بطلتا اللوحة، لكن في تلك الحديقة كان حجم الزنابق أكبر، أما المشهد الثاني، فقد كان أثناء رحلة بالقارب على نهر التايمز مع الفنان والمهندس المعماري الأمريكي إدوين أوستن أبي، حيث رأى خلالها فوانيس صينية معلقة بين الأشجار والزنابق، بالتالي جمع الفنان بين المشهدين في اللوحة.

وفي الأصل كان سارجنت يجري في تلك الفترة عدداً من الدرلسات على الحدائق والزهور وتعامل الناس معها بوضعيات مختلفة، وعندما شرع في رسم هذه اللوحة استخدم، كنموذج، في المرة الأولى طفلة واحدة تدعى كاثرين وهي ابنة زميله الرسام فرانسيس ديفيد ميليت، وكانت تبلغ من العمر خمس سنوات، ولكن بعد ذلك بوقت قصير استخدم الطفلتين دوللي وبولي بارنارد، ابنتي الرسام فريدريك بارنارد، حيث بالإمكان رؤية دوللي التي كانت تبلغ من العمر 11 سنة على الجانب الأيسر، بينما تقف بولي ذات السبع سنوات على الجانب الأيمن من اللوحة، ولعل ما شجع الفنان على اختيار الفتاتين كونهما تمتلكان لون الشعر الذي كان يبحث عنه سارجنت.

بذل سارجنت في هذه اللوحة مجهوداً كبيراً، وكان المناخ يتغير بصورة مستمرة، بينما كان الفنان يريد إضاءة معينة عند الغروب، لذلك استمر في العمل على اللوحة منذ سبتمبر إلى أوائل نوفمبر من عام 1885 وفي صيف العام الذي تلاه حتى أكملها في شهر أكتوبر1886، وكان أثناء عملية الرسم يقوم بعدد من الأنشطة الرياضية والاجتماعية مثل لعب التنس مع الأصدقاء، ويواصل أثناء ذلك الرسم بضربات فرشاة سريعة، وعندما كانت الزهور تذبل في الحديقة في بعض الفصول كان الفنان يلجأ إلى استخدام زهور صناعية، وفي بعض الأحيان كان يتوقف عن العمل من أجل المراجعة وضبط المشهد، وكان سارجنت من خلال كل ذلك ينشد الدقة والوصول إلى مشهد ساحر.

اسم اللوحة مأخوذ من أغنية للملحن البريطاني جوزيف مازينجي، حيث كانت شائعة في ذلك الوقت، وكلماتها تتحدث عن رجل يبحث عن صديقته «فورا».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/kudaa96w

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"