عادي

بحر الصين الجنوبي.. غليان في مرجل التوتر

23:10 مساء
قراءة 5 دقائق
التوتر في بحر الصين الجنوبي قد يقود إلى حرب مدمرة

د. أحمد قنديل *

في أحدث حلقات مسلسل التوترات المستمرة في المياه المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، اتهمت الفلبين، في 6 أغسطس الجاري، قوات خفر السواحل الصينية باعتراض طريق قارب إمدادات عسكري فلبيني في بحر الصين الجنوبي واستهدافه بمدافع المياه. ونددت مانيلا أيضاً باستخدام بكين «إجراءات مبالغ فيها وهجومية» تجاه سفنها، الأمر الذي يمثل «تجاهلاً صارخاً لسلامة أولئك الموجودين على متنها، وانتهاكاً شديداً للقانون الدولي». ورد قائد خفر السواحل الصينية بالقول إنه طبق «الضوابط الرادعة»، وفقاً للقانون الصيني، في مواجهة السفن الفلبينية التي اتهمها ب «التجاوز في منطقة خاضعة لسيادة بلاده».

أكدت وزارة الخارجية الأمريكية أن «تصعيد الصين المتكرر للوضع الراهن في بحر الصين الجنوبي، تمثل تهديداً مباشراً للسلام والاستقرار الإقليميين»، مشيرة إلى أن الولايات المتحدة سوف تقف إلى جانب حليفتها الفلبين في مواجهة مثل هذه «التصرفات الخطِرة»، من جانب قوات خفر السواحل الصينية والميليشيات البحرية، في بحر الفلبين الغربي.

التوتر المتزايد في بحر الصين الجنوبي بين الصين من جهة والفلبين والولايات المتحدة من جهة أخرى ليس جديداً؛ بل وينذر بإمكانية اشتعال تصادمات عسكرية من شأنها أن تتحول، بقصد أو دون قصد، إلى مواجهات مسلحة خطِرة في هذا البحر، الذي يلعب دوراً جيوسياسياً كبيراً في منطقة المحيطين الهادئ والهندي؛ إذ يمر من خلاله نحو أربع تريليونات دولار من إجمالي التجارة العالمية سنوياً، كما تعبره ناقلات شحن تحمل ما يقرب من 30 في المئة من إجمالي النفط والغاز الطبيعي المتداول عالمياً، هذا إضافة إلى أنه يكتنز أيضاً نحو 190 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي و11 مليار برميل من النفط، وثروات هائلة من الأسماك، ما يجعله بيئة خصبة للتنافس الجيوسياسي والجيواقتصادي والجيواستراتيجي بين الولايات المتحدة وحلفائها من ناحية والصين من ناحية أخرى.

مطالب مرفوضة

بكين لديها مطالبات بالسيادة على أغلب بحر الصين الجنوبي، إلا أن هذه المطالبات مرفوضة من جانب واشنطن وكثير من حلفائها في منطقة جنوب شرق آسيا؛ حيث تطالب كل من الفلبين وفيتنام وماليزيا وبروناي وتايوان بالسيادة على مناطق معينة في هذا البحر الحيوي. لذلك لم يكن غريباً أن ترتفع أصوات الشجب والتنديد من قبل مسؤولي مانيلا على التجاوزات والاختراقات الصينية المتكررة لحدود بلادهم، خاصة منذ قدوم الرئيس الفلبيني الجديد فرديناند ماركوس (الابن) إلى السلطة في يونيو 2022. حيث أكد الرئيس ماركوس، الذي شهد عهده تقارباً شديداً مع «الحليف الأمريكي» على خلاف الرئيس الفلبيني السابق رودريجو دوتيرتي الذي مال إلى تعزيز العلاقات مع الصين، على أنه لن يسمح لبكين بالتعدي على «حقوق الفلبين السيادية». وهو الأمر الذي برز من تقديم مانيلا إلى بكين أكثر من 400 مذكرة احتجاج دبلوماسي على خلفية «نشاطات غير قانونية» للصين في بحر الصين الجنوبي، وفق ما أكدته وزارة الخارجية الفلبينية. وإلى جانب الاحتجاجات الدبلوماسية، سعت مانيلا، على الصعيد العسكري، إلى تعزيز «التحالف» مع واشنطن من أجل التصدي لتصاعد النفوذ الصيني في هذا البحر. حيث أجرت الدولتان في إبريل 2023 أكبر مناورات عسكرية مشتركة في تاريخهما. وشارك في هذه المناورات المعروفة باسم «باليكاتان»، والتي تعني بالفلبينية «جنباً إلى جنب»، نحو 18 ألف جندي من الجانبين، وتضمنت للمرة الأولى إطلاق نار بالذخيرة الحية في بحر الصين الجنوبي. وإضافة إلى ذلك، استأنفت مانيلا وواشنطن أيضاً الدوريات البحرية المشتركة في بحر الصين الجنوبي، وأبرمتا اتفاقاً يهدف إلى تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في الفلبين. وبموجب هذا الاتفاق الجديد، سيُسمح للقوات الأمريكية باستخدام أربع قواعد عسكرية فلبينية إضافية، من بينها قاعدة بحرية قريبة من تايوان. ونددت الصين بهذه الخطوة «المستفزة»، مؤكدة أنها «ستعرّض السلام والاستقرار الإقليميين للخطر».

قلق وشكوك

وفي هذا السياق، يرى كثير من الخبراء أن تأجج التوتر في بحر الصين الجنوبي مؤخراً بين بكين من جهة والفلبين والولايات المتحدة من جهة أخرى يمكن أن يؤدي إلى السيناريو الأكثر سوءاً، وهو اندلاع حرب بين الجانبين، وبخاصة في ظل غياب وسيلة اتصال فعالة على المستويات العليا والدنيا على الصعيد العسكري. كما أن العلاقات الدبلوماسية المضطربة بين الجانبين ما زالت مستمرة، ما قد يزيد من خطر تكرار الحوادث العسكرية بين الجانبين. وما قد يزيد من خطورة الأمر عاملان أساسيان: العامل الأول الأهمية الاستراتيجية الكبيرة لبحر الصين الجنوبي، الذي يعد «مفتاح» الأمن القومي الصيني؛ حيث يمثل هذا البحر ممراً مهماً للدوريات الاستراتيجية لغواصة الصواريخ الباليستية النووية الصينية، التي تحتاج إلى دخول غرب المحيط الهادئ للقيام بمهمات الردع النووي ضد الولايات المتحدة، كما أن هذا البحر يمكن أيضاً أن يكون «منطقة عازلة» للصينيين إذا شنت واشنطن هجوماً عسكرياً ضدهم.

أما العامل الثاني فهو أنه في أعقاب اندلاع العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا في فبراير 2022، بدأت الفلبين تشعر بالقلق الشديد بشأن الآثار المترتبة على بحر الصين الجنوبي، خاصة مع تفاقم الهواجس والشكوك، في كثير من العواصم الآسيوية، تجاه إمكانية قيام الولايات المتحدة بالتعامل مع أزمتين أمنيتين كبيرتين إذا اندلعت أزمة في آسيا، بينما لا تزال الحرب في أوكرانيا قائمة. كذلك، يمكن أن تكون محاولة روسيا أحادية الجانب لتغيير الوضع الراهن في أوروبا عاملاً مغرياً للصين من أجل تكرار نفس الأمر في بحر الصين الشرقي والجنوبي، خاصة مع انشغال واشنطن بالصراع في أوروبا، ووجود فرصة كبيرة أمام بكين لاستغلال ذلك الفراغ في آسيا إما بالهجوم على تايوان أو تعزيز وجودها العسكري في بحر الصين الجنوبي والشرقي.

على أية حال، يمكن القول إن التفاعلات العسكرية والدبلوماسية مؤخراً في منطقة بحر الصين الجنوبي تنذر بإمكانية وقوع الصين والولايات المتحدة والفلبين في «فخ عسكري مغر للوقوع فيه»، لا سيما أن هناك بالفعل ما يمكن أن يعجل بالأمر. ويبدو أن الخيار سيكون مراً وصعباً للغاية أمام واشنطن في المدى المنظور، ذلك أنه إذا تخلت الولايات المتحدة عن الفلبين سيعد الأمر نذير سوء لكافة تحالفاتها الأمنية والاستراتيجية حول العالم. وعلى الجانب المقابل، أي حال أرادت واشنطن إثبات وفائها لتابعيها ومريديها، فإن الأمر سوف يكلفها صراعاً عسكرياً شديد الوقع مع بكين، قد يبدأ من عند الأسلحة التقليدية، لكن أحداً لا يضمن أنه سيتوقف عند تلك الحدود؛ إذ ربما سيتجاوزها إلى منطقة أسلحة الدمار الشامل، ما يعني دخول العالم في حرب عالمية جديدة.

* خبير الشؤون الآسيوية ورئيس وحدة الدراسات الدولية

مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4rnc9uzm

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"