جدليّات الدولة والسلم المدنية

00:04 صباحا
قراءة 3 دقائق

إذا ما جارينا الفلاسفة المحدثين، الذين اقترنت أسماؤهم بما عرف باسم فلسفة العقد الاجتماعي، في افتراضهم وجود حالة سابقة للدولة (أطلقوا عليها نَعْت حالة الطبيعة)؛ وإذا ما صرفنا النظر عن جدالاتهم في تعيين طبيعتها (حالة حرب وعدوان كما عند توماس هوبس؛ أو حالة سلم ومساواة كما عند سبينوزا وجان جاك روسو) مكتفين بما يترتب على القول بها من استنتاجات، لكان القاسم بين تفكيرنا وتفكيرهم الاعتقاد بأن الدولة نشأت لتَسد حاجة اجتماعية حيوية تتوقف عليها استقامة أحوال الاجتماع الإنساني هي حماية السلم المدنية.

عند فلاسفة العقد الاجتماعي هذه السلم المدنية ضرورة وجودية لإنهاء حالة حرب الجميع على الجميع (هوبس)، وعدم انتهاك واحد من أهم قوانين الطبيعة: قانون البقاء، أو قانون حفظ النوع الإنساني؛ وهي ضرورة وجودية عند آخرين (لوك) لئلا تتحول حالة الطبيعة إلى حالة حرب فيتهدد بذلك قانون السلم الذي هو من قوانين الطبيعة. في الحالين يُؤْذِن قيام الدولة بهذا الانتقال الحيوي من الطبيعي إلى المدني الذي به يستتب أمر السّلم في المجتمع. أما عندنا، نحن المعاصرين، فلا حاجة بنا إلى معرفة ما قبل الدولة لمضاهاته بالدولة وتبين فوائد الأخيرة؛ تكفينا تجربتها - هي نفسها - في التاريخ الحديث والمعاصر لبيان الفرق بين حالات القوة وحالات الضعف فيها، وما تستجره عليها وعلى المجتمع كل من تينك الحالتين.

الحروب الأهلية في العالم المعاصر، مثلاً، هي الحالة الأعلى التي تتبدى لنا فيها تلك الفروق المَهولة بين أوضاع الضّعف وأوضاع القوة في الاجتماع السياسي؛ إذ يكفي اندلاع شرارتها هنا أو هناك لِيَدلّنا على مقدار ما يرتبه ضعف الدولة من فادح التبِعات على المجتمع، وما ترتبه صراعات المجتمع الأهلي الفئوية والعصبوية من باهظ الأثمان على استقرار الدولة، وأحياناً، على إمكان استمرارها. الحرب الأهلية هي الدرجة العليا في التعبير صِفرياً عن السّلم المدنية، لأنها- باختصار- اللحظة التي ما كان يمكنها أن تنشأ لولا أن السلم المدنية معدومة الوجود، أو تعاني تأزماً شديداً يعادل فقدانها. وما أغنانا عن القول إن الأخيرةَ لا تكون في هذه الحالة من السوء أو من الغياب إلاّ متى كانتِ الدولة حقيقةً كيانيةً باهتة أو شاحبة الملامح في مجتمعٍ منقسمٍ لا يَعْقِد لها ولاءَه!

واضحٌ، إذن، أن بين الدولة والسلم المدنية تلازماً ماهوياً؛ ما من دولة لا تكون سِلمٌ مدنية أساساً للنّظام فيها يسمح لها بأن تقوم بوظائفها بما هي دولة؛ وما من سلْمٍ مدنية يمْتَكن أمرها من غير حاضنة سياسية هي الدولة. والاثنتان معاً لا تكونان ويستقيم لهما أمر إلاّ في نطاق مجتمع مدني؛ أعني في نطاق اجتماع إنساني حقق - بفعل الدولة وآليات الصهر التي تمتلكها - قدْراً معقولاً من الاندماج الاجتماعي الذي يَصهره في بنية انتماءٍ عليا وجَمْعية (أمة، شعب، جماعة وطنية). ومعنى هذا أن المجتمع الأهلي المنقسم على نفسه إلى بنيات عمودية صغرى، على أساس روابط الدم والنسب والعرق والدين والمذهب...، يعجز عن أن يفتح علاقات قواهُ بنفسها على أساس من السّلم المدنية، لأن انقساماته وتناقضاته تأخذُه، حكماً، إلى المرور بأحوال من النزاعات التي لا تجد لها ضابطاً يَعْقلها، خلافاً للصراعات في مجتمع مدني يحتكم فيه مواطنوه إلى القوانين للفصل في ما شَجَرَ بينهم، لأنّ ذلك جزء من ولاية الدولة على مواطنيها.

العلاقة بين هذه المفاهيم جدلية، إذن، بحيث يمسك الواحد منها بالثاني إمساكَ مشروطيّةٍ وتَرَتُّبٍ منطقي: لا سِلم مدنية من غير مجتمعٍ مدني حديث؛ وليس من مجتمع مدني من غير دولة حديثة؛ وما من دولة حديثة (ولا مجتمع مدني وسلم مدنية) في نطاق مجتمعٍ أهلي عصبوي منقسم؛ وليس من مجتمع عصبوي إلاّ في نطاق دولةٍ ضعيفة المشروعيّة الدّاخلية والولاء وضعيفة القوى بحيث تُجرِّئُ عليها قوى اجتماعها الأهلي. هكذا في تسلسل حلقات العلاقة يكون اللاّحق بكينونةِ السابق، ولكن لا فقط بمعنى شَرْطيّ، أي أن يكون السابق علةً لوجود اللاحق؛ إذِ لا تلبث العِلة نفسها أن تصير معلولاً وأن يتحول معلولها إلى عِلّة؛ وتلك حال الجدلية بين عناصرها.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/548kr7f8

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"