وعي الذات ووعي الآخَر

00:25 صباحا
قراءة 3 دقائق

على الرّغم من أنّ جدليّة الأنا/ الآخَر في كلّ الثّقافات تتكوّن من حَدَّين متقابليْن يدخلان مع بعضهما في علاقةِ تناقضٍ، إلاّ الحدّين ليسا - مع ذلك - منفصلين، وقد لا يمكن تَخَيُّل أحدِهما - أو تَخيل معنى لأحدهما - من دون الآخر؛ ذلك أنّ جدليّتهما تمنع من دون اجتماع التّناقُضِ إلى الاتّصال بينهما في الآن عينِه، أي من دون تلك العلاقة من التّلازُم النّزاعيّ التي تَشُدّ الواحدَ منهما إلى الآخر. لذلك يُضْمِر سعْيُ كلّ حدٍّ منهما إلى إدراك الثّاني سعياً - في الوقت عينِه - إلى اكتساب الوعي الذّاتي أو تحقيقه، أو لِنَقُل - إنْ شئنا الدّقّة أكثر- إنّ وعيَ أيِّ أناً غيْريّةَ آخَرَها ومبايَنَتَهُ إيّاها (أي ما يجعله، عندها، آخَراً غيرها) شرطٌ لازِبٌ لوعيها نفسَها بما هي أناً مختلفة.

الوعيُ الذّاتيّ، بهذا المعنى، فعْلٌ معرفيٌّ تالٍ على وعي الآخَر ومبنيٌّ عليه؛ إذِ الأنا غيرُ قائمة بذاتها، بل بعلاقةٍ تتحدّد فيها بوصفها كذلك، أي أناً، وشريكُها في تلك العلاقة هو من يمنحها إمكان وعي نفسها من طريق وعْيِه هو. لذلك فإنّ الأنا، هي «ثمرةُ جدليّةٍ تضعُها في مقابل ما يخالفها أو، قُل، تضعها في مقابل ما تعي أنّه يخالفها، فيحصل من وعيها بمخالفته نفسَها وعيُها بنفسها كماهية - أو هويّة - مختلفة. وهكذا لا يكون الآخَرُ آخَرَ لأنّ الأنا تراه كذلك (آخَر)، وإنّما تكون الأنا أناً لأنّها تعي نفسَها كذلك (أي أناً) من خلال آخَر ينبّهها إلى نفسها...».

نحن، في مضمار هذه العلاقة المعقّدة بين الحدّين، أمام كيفيّات متعدّدة لوعي الأنا نفسَها في تلك العلاقة التي تشدُّها إلى آخر. نكتفي بالإشارة إلى أَظْهر تلك الكيفيّات فنحصرها في أربعٍ:

} أوّلها؛ الوعيُ الذي ينصرف إلى بيان ما بين الأنا والآخَر من تمايُزٍ وتَجَافٍ. تضع الأنا، هنا، نفسَها في مقابل غيرِها كوسيلةٍ لإدراكِ ما تتفرّد به أو - على الأقلّ - ما يَسِمُ كينونتَها. لا يعنيها في شيء أن تشترك مع آخَرها في سمةٍ مّا، وهي إنْ صادفت شيئاً من ذلك المشتَرَك تجاهلتْهُ لأنّها مدفوعةٌ، أساساً - إلى اكتشاف ما تَنْماز به فيكون الوعي بالذّات من ثمراته. وغنيّ عن البيان أنّ هذه الكيفيّة الأولى من وعي الأنا نفسَها تُفْسح مكاناً للآخَر فيها، لأنّ الوعي الذّاتيّ ذاك - أو الوعي بالذّات - ليس مباشراً تتوجّه فيه الأنا إلى نفسها، وإنّما هو وعيٌ متوسَّط أو يقع بالواسطة؛ أعني من طريق وعي الآخَر ومساحات الاختلاف بينه والأنا.

} ثانيها؛ الوعيُ المنصرف إلى بيان الجامع والمشتَرَك بين الأنا وآخَرَها. ومن الطّبيعيّ، في مثل هذا الضّرب من الوعي، أن لا تقيم الأنا العوازِلَ المُبايِنَة بينها والآخَر، لأنّ في ذلك ما يفضي إلى طمْس معالم ما هو في حكم مساحات التّقاطُع بينهما. تكون الأنا أكثر تواضُعاً، في هذه اللّحظة من الوعي، ممّا هي في لحظته السّابقة وأقلّ تمركُزاً على الذّات. وهكذا حينما تعي التّشابُهَ، فهي تعيه من طريق تَمَثُّلها آخَراً لها ترى صورتها في مرآته. وعليه، يُبْنى وعيُ الأنا بذاتها: بما تنماز به وما تشترك فيه مع غيرها، على وعيها بالآخَر من حيث هو من عُدّة اشتغالِ أيِّ وعيٍ ذاتيّ.

} ثالثها؛ الوعيُ الذي يتغيّا بيانَ تفوُّق الأنا ونموذجها الحضاريّ والثّقافيّ على نموذج الآخر. وهو وعيٌ يقود الأنا إلى التّمركز الشّديد على الذّات والانصراف، انصرافاً شبهَ كليّ، عن الواقع الموضوعيّ والميْل نحو التّباهي بالماضي، أو بالحاضر، ونحو القدْح في الآخَر. وهذا، على التّحقيق، هو الغالب على كلِّ وعيٍ من الأنا بنفسها في مجتمعات العالم وثقافاته. ومع أنّ هذه الكيفيّة من الوعي الذّاتيّ تتشرنق فيها الأنا على نفسها، إلاّ أنّها لا تتحقّق هي الأخرى أو، قُل، لا يتحقّق الوعي بالذّات فيها إلاّ من طريق الوعي بالآخَر.

} رابعها؛ هو الوعيُ بالآخَر المتفوّق، أو بمَواطن القوّة والتّفوّق فيه وفي نموذجه الاجتماعيّ والثّقافيّ. ولا تنشأ هذه اللّحظة من الوعي الإيجابيّ إلاّ حين تتخفّف الأنا من ثقل نرجسيّتها وتمركُزها الذّاتيّ، وهو ما يحصل في حالتيْن: حين تكون الأنا شديدةَ الثّقة بذاتها وباستقامة نموذجها الحضاريّ؛ أو حين تكون فاقدةً للثّقة الذّاتيّة بالكليّة، منطويةَ النّفس على شعورٍ بالانكسار والاستسلام. والحالتان تقودانها إلى نوعين من الوعي الذّاتيّ شديديْ التّبايُن...

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mv3ny8u4

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"