«العربية» في مفارقات إعلامية

01:31 صباحا
قراءة دقيقتين

أليس مشهداً كوميديّاً لاذعاً بامتياز، أن تخاطب الفضائيات والإذاعات الأجنبيّة، العرب بالعربية الفصحى، لأنها اللغة التي يلتقون في فهمها من دون لَبس أو سوء فهم، بينما تحرص وسائط إعلام عربية كثيرة على مخاطبة شعوبها بلهجاتها العاميّة؟ ذلك خشية أن يقع الناس ضحايا عدم فهم الفصحى «لا قدّر الله». الأباعد الأبعدون، البريطانيون والفرنسيون والروس والصينيون يستخدمون الفصحى لكونها اللغة المشتركة التي يفهمها العرب مشرقاً ومغرباً، ولا يختلفون في فهمها، بينما يرى إعلاميو بلدان عربية عدّة، شعوبهم غير قادرة على فكّ الرموز العبقرية المعقّدة التي يبثونها، إلاّ إذا أذابوها في محلول العاميّة.

مقدّمو نشرات الأخبار والمحاورون في الفضائية الروسية، والذين يتولّون الترجمة الآنيّة، وهم روس، لا يلجأون إلى اللهجات العربية، خشية أن يفهمهم عربٌ دون عرب. في حين أن إعلاميي فضائيات عربية كثيرة، مقتنعون بأن الفصحى غريبة عن العرب، كأنما هي دخيلة جاءت من كواكب أخرى، أو منظومات غير منظومتنا، أو أتت من مجرّات بعيدة من سكّة التبّانة. ألا يذكّرك هذا بالطلب البريطاني من العرب، بعد الحرب العالمية الثانية، أن ينشئوا منظمة عربية يستطيعون مخاطبة العالم من خلالها بلسان واحد؟ لكن الجامعة لم تقدر على أن تكون جامعة. قال القلم: «لعلّها عدوى نحوية، فمنذ بداية ظهور علوم اللغة، انبثقت كالفطر مدارس النحو، كوفية، بصرية، تميمية، حجازية... بينما لغة العرب واحدة». قلت: لا تزد على هذا، فقد قرأتُ في ذهنك أن الذين اتفقوا على ألاّ يتفقوا، ليسوا بجمع مذكّر سالم أو جمع مؤنث سالم، فقد كانت المنظمة في ما مضى دائماً أشبه بجمع التكسير.

خلاصة القول هي أن وسائط الإعلام الأجنبية، مَلَكية أكثر من الملك، حاضناتها أحنّ من الأمهات العربيات، وقدورها أسخن من الحساء العربي. إعلاميوها، لقصور في العقل والإدراك، لا يريدون مجاراة تلك الفضائيات العربية في الحكمة والرشاد والسداد في تنحية الفصحى حفاظاً على ديكتاتورية البروليتاريا العاميّة. ألا يعلمون أن زمن «هنا لندن» قد ولّى إلى غير رجعة، أيامَ كانت هيئة الإذاعة البريطانية تختار أقدر المذيعين وأفصحهم، وأدباء من الطراز الأول ليشرّفوا الأذن العربية بسماع روائع الكلم. اليوم صار الإعلان فوق الإعلام، وسلق البيض لا يحتاج إلى كبار الطهاة، «وهزّ الوسط» مقدّم على الوسط الثقافي. للعلم والاطّلاع، لا توجد، أو قلّما توجد في اللغات الأخرى ظاهرة مثل المذاهب النحويّة وخلافاتها القرونية، التي لم تُحلّ إلى يومنا هذا، بين أهل الكوفة والبصرة، حتى بعد خراب البصرة.

لزوم ما يلزم: النتيجة اللغزية: آه، لو يشفي الروس والصينيون الصدور، فيكشفوا لنا سرّ سرعة تعلّم بناتهم وأبنائهم العربية بسلامة لغوية وفصاحة. مناهج العرب أيضاً، هي الأخرى تستفيد، والله.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2zys4e4z

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"