العشوائيات.. حياة

00:19 صباحا
قراءة دقيقتين

ساوباولو الجميلة، مدينة في البرازيل، اشتهرت بالقهوة والفاكهة، وقلب شعبها، كنت فيها قبل أيام، أعانق مشاعري المتأثرة بزخّات المطر، وتفاصيل السماء التي تغيرت من شمس حارّة إلى غيم جميل يدغدغ الأحاسيس، ويغيّر مما كنت أشعر به قبل هذه التجربة الجديدة. تعلّقت بلوحتي «القهوة» أكثر، حين لامست الكثير أثناء العرض ضمن معرض «كنوز الخط العربي» وتعلقت بفني ورسالتي التي هي وسيلتي الأولى في هذه الحياة، لأعبر عن نفسي وعن تجارب أخرى اختارتني لأكون جزءاً منها.

في متحف الفن البرازيلي، ذلك المبنى الذي لم ينته المعماري من تنفيذه، حتى صار ذلك سبباً في جماله وتتويجه بأن تكون تحفه معمارية، تشبه قصصنا غير المنتهية، تعطيك الجدران ذات اللون الأحمر غير المكتملة، ذلك الإحساس بأن تنغمس فيها، وتكون جزءاً من تجربتها وقصتها. هناك تطلعت للأعلى، ورأيت السماء من خلف قطعة بيضاء أضيفت حديثاً، اندمجت وتأثرت، حاورت اللوحات، تكلمك بتفاصيلها وتاريخها، اعتنقت الخلود الذي استرسل في البوح بما مضى وأتى، وكيف أن الإنسان غيّر وبدّل حتى في طبيعة الحياة.

في تلك الأروقة استوقفتني صورة وليست لوحة، وكأن الصور أصبحت جزءاً من شخصي بعد كتابي «تنفّس»؛ استوقفني بتفاصيل الوجوه، الأسر التي أطلّت من نوافذ كثيرة، لوحة صارخة، وقفت أمام كل مربع أطالع التفاصيل، ونمط حياة أهل كل نافذة، اختلف شكل النوافذ، فظننت في البداية أن المصور قد التقط صوراً لحيوات مختلفة في نوافذ من أبنية مختلفة، لاختلاف الأشكال والألوان، لم أجد نافذة تشبه أختها، فسألت المرشد عن القصة فأخبرني: إنها بناية عشوائية، وسكانها ممن لا بيوت لهم، مهجورة، غير قانونية، سكنوها، وبنى كل فرد فيها حياته، وشكل نافذته، نوافذ وأسر بلا كهرباء وماء، في حياة عشوائية بدائية، أطلّت من النوافذ المرأة العجوز، عشاق، امرأة ترتقب طفلها، أطفال يلعبون، ملابس منشورة، ونوافذ أخرى لا تزال مهجورة؛ لم تكن هذه البناية بعيدة؛ بل تقبع في الشارع المقابل للمتحف، فتذكرت أنه أمام نافذة فندقي بين المباني الحديثة أيضاً، مبنى يشبهها، فبقيت أتأمل النوافذ، وفي يوم، رأيت ملابس منشورة في إحداها، فتيقنت أنه يسكنها من لا مأوى له.

لا أكتب تجربة المباني العشوائية لأظهر سوءاً؛ بل كنت فرحة بمشاهد السعادة التي أراها في تلك الوجوه، وكيف أن الحياة البدائية التي يعيشونها لم تحرمهم الفرح والاستمتاع، أكثرها نوافذ حب وعشق، وارتقاب للمستقبل، لأن الحياة تصنع بأقل الأشياء، والإنسان يتأقلم مع يومه، ولا يحرم نفسه من فكرة المحاولة؛ فكم من مجتمع فقير أنتج أسطورة! وهل ينسى أحدنا الأسطورة بييليه الذي ولد من رحم الفقر، وغيّر الكرة البرازيلية؟ أحببت البرازيل الغنية والفقيرة، ولي عودة يوماً ما لقصة لم تنته.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/38zkvdfd

عن الكاتب

مؤلفة إماراتية وكاتبة عمود أسبوعي في جريدة الخليج، وهي أول إماراتية وعربية تمتهن هندسة البيئة في الطيران المدني منذ عام 2006، ومؤسس التخصص في الدولة، ورئيس مفاوضي ملف تغير المناخ لقطاع الطيران منذ عام 2011

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"