ترتيب الميراث الثقافي وترميمه

00:08 صباحا
قراءة دقيقتين

هل تتصوّر أن موضوع «سوء فهم العلاقة بالتراث» طُويت صفحتُه بعمودٍ وانتهى؟ أدنى ما يترتّب على ذلك هو أن على المعنيّين بشؤون الثقافة، حاضراً ومستقبلاً، تصحيحَ المسار. سيكون ضروريّاً الاعترافُ بأن الأساس الذي قامت عليه الثقافة العربية، كان أعوج، وفي هذه الحالة لا حاجة إلى توضيح حال نموّ البنيان.

السؤال الذي يجب العمل عليه بجدّ هو: ما هي البُنى الثقافية التي سينقلها العرب إلى الأجيال القادمة؟ سؤال يحتاج إلى مجمع فكري ثقافي للإجابة عنه. سيتطلب تحديد الموانع التي حالت دون ظهور مدارس وتيارات فكرية وفلسفية لها نموّ طبيعي عبر القرون. سيستدعي تعيين أسباب خلوّ المكتبة العربية، منذ القرن الثاني الهجري، وعلى مدى القرون العشرة التالية، من مؤلفات في الفكر السياسي والفكر الاقتصادي.

هل ينبغي للمفكرين المرور بلا مبالاة على ظاهرة غريبة قرونية، وهي غياب البحث العلمي في ماضينا وحاضرنا؟ الأغرب أن البلدان العربية، كانت سهلة الإصابة بعدوى الظاهرات السلبية، ولا تزال، إلاّ أصناف «العدوى النافعة»، كالبحوث العلمية والارتقاء بها إلى إنتاج العلوم. المناعة ضعيفة أمام الأنفلونزا الموسيقية، الجنون التشكيلي، التجريبية التخريبية الشعرية... أمّا الفضاءات التي تتناغم في أفلاكها الفلسفة والرياضيات والموسيقى، فتلك عوالم شاقّة تركها القوم لليونانيين القدامى والألمان المعاصرين.

لا شك في أن طرح موضوع «سوء فهم العلاقة بالتراث»، على الوجه السليم، الموضوعي النقدي التحليلي، يؤدي قطعاً إلى التحقيق الجادّ في العوامل التي جعلت البُنى الاجتماعية والسياسية في بلدان عربية عدّة، واهية الأسس بسكويتية الدعائم، هشّة لمن أراد بها التهشيم. هذه القضايا ومقتضياتها ثقافية فكرية بامتياز، ولا يمكن بحث جذورها وانعكاساتها في ميدان آخر.

العجب العجاب ليس أن القرون الخالية لم تشهد أدواراً فعّالة للفكر والفلسفة في بناء الدولة سياسةً واقتصاداً واجتماعاً، فالأعجب أن التاريخ الحديث، أي في القرون الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، عرف إرهاصات وبوادر يقظة كثيرة، سوى أنها كانت في اختبار الفاعلية ضرباً من النقش على الماء. كأن عبد الرحمن الكواكبي لم يؤلف «طبائع الاستبداد»، وكأن رفاعة الطهطاوي لم يسافر إلى باريس. رحلة الشاب الياباني هوندا إلى العاصمة الفرنسية هي التي أثمرت.

النهضة المصرية في عهد محمد علي باشا، استفاد منها اليابانيون كثيراً، فقد أرسلوا إلى مصر وفداً لاستكشاف أسرار التنمية الصناعية. لكنهم مع الخوارق التنموية التي حققوها، لم يتخلّوا في موسيقاهم عن المقامات الخماسية، والآلات التقليدية، ولا عن البروتوكولات والتشريفات المعقّدة في تناول الشاي مع ارتداء الكيمونو. حركات وانحناءات، إذا رآها غير العارف، حسبهم في صلاة خاشعين.

لزوم ما يلزم: النتيجة الفكرية: لا يستقيم بناء المستقبل، إذا لم يُعَد ترتيب دعائم الماضي وترميمها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/36v3mves

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"