نحو تحديث التأسيس الثقافي

00:08 صباحا
قراءة دقيقتين

هل ترى سلسلة الأعمدة التراثية قد طالت؟ معك حق، لكن، إذا لم تبادر نُخب أهل البحوث والتحقيقات إلى الغربلة والصقل والمزامنة والمناغمة مع الحاضر، والإعداد الاستشرافي للمستقبل، فإن النشء الجديد والمقبلين من بعدهم سيرون التراث مخازنَ قديمةً تجاوزها الزمن، فيمرّون عليها وهم عنها معرضون. على المعنيّين بهذه الشؤون، المسؤولين عن الجذور وامتداداتها، أن يدركوا أن الذين سيبلغون الثلاثين في سنة خمسين، ستكون الحوسبة الكوانتومية وخوارق الذكاء الاصطناعي، لديهم من أبسط الأدوات، وستكون المطامح العلمية والتقانية آنذاك فوق ما يُجنّح الخيال.

الإشكاليّة الثقافية هي أن يستعصي على الجيل المقبل، فصاعداً، التعامل مع الميراث الثقافي، لأسباب شتى، منها أن النسبة الغالبة منه تجميع ومراكمة، الأمثلة كثيرة: «صبح الأعشى- العقد الفريد- محاضرات الأدباء- نفح الطيب- المستطرف...»، وهذه الأنماط من التأليف قد تلوح أعمالاً موسوعيةً قديمة، ومنها أن الكتب التي تحفل بالأفكار القيّمة، لا تخلو من التعقيدات الأسلوبية والتراكيب الغريبة حتى عن مزامنينا، فكيف سيراها الناس في منتصف القرن؟ بالتالي قد يَحكم أولئك على تراثنا بأنه تحف متحفية لا محلّ لها من حياة العصر. لا شك في أن هذه الأحكام فيها الكثير من التجنّي وعدم التأنّي.

يقيناً، التجني غير جدير بالتغنّي، لكن، هل يستطيع هُداتُنا في الثقافة الإجابة عن السؤال: لقد مضى على رحيل كونفوشيوس ولاو تزو وصن تزو، حوالي خمسة وعشرين قرناً، فهل منعهم الزمن من الانبعاث وكأنهم معاصرون؟ لو لم تبعث الصين تراثها من مرقده، هل كان كتاب «فن الحرب» يُدرّس في جميع الكليات الحربية في العالم؟ الجيوش الأمريكية عملت به في العراق، كان المرافق لكل جندي. كيف طُبّقت استراتيجيته حتى في الإدارة والتسوق والاقتصاد؟ كيف يستفيد الصينيون من محاورات كونفوشيوس في التربية والإدارة؟ تأملات لاو تزو التاوية منتشرة عالميّاً حيث حلقات التصوّف. الكتب التي تتناول الحكمة الصينية، في كل اللغات، تشكّل مكتبة، فهل لدينا مؤلفات تتجلى فيها ومضات يمكن أن نسمّيها «الحكمة العربية»؟ هل فكّر العلماء العرب في وضع منهجية عربيّة للبحث العلمي في الميادين الحيوية؟

على نخبنا الفكرية تأسيس محور عصريّ للثقافة العربية، فقد ظل الشعر مركز جاذبيتها عبر القرون. بتعبير الفيزياء الفلكية، كان الشعر بمثابة «أفق الحدث» في محيط الثقب الأسود، الذي لا يستطيع أيّ شيء الإفلات منه إذا وقع فيه. نجمت عن ذلك إشكاليات كبيرة كثيرة في ثقافتنا الموروثة، مظهرها الأبرز: تضخم في الهلاميات البلاغية، وتقلّص وضمور في الفكر والبحث العلمي والعقل الناقد.

لزوم ما يلزم: النتيجة اليقينيّة: لا يمكن أن يتعايش واقع ثقافتنا التراثية مع مستقبل تنموي قائم على ثنائية متوازنة من إنتاج العلوم والإبداع الثقافي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2k37wfcy

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"