التاريخ وصناعة الوعي

التحولات في الكتابة التاريخية وتطوير فهم الديمقراطية
23:37 مساء
ترجمة وعرض:
نضال إبراهيم
قراءة 7 دقائق
2
2
2

عن المؤلف

الصورة
1
جيف إيلي
حاضر جيف إيلي في جامعة كامبريدج (1975-1979) وجامعة ميشيغان (1979-2022). وتشمل كتبه السابقة «صياغة الديمقراطية: تاريخ اليسار في أوروبا، 1850-2000»، و«مستقبل الطبقة في التاريخ: ماذا بقي من المجتمع؟» مع كيث نيلد، و«النازية كفاشية: العنف والأيديولوجية وأرضية الرضا في ألمانيا».

 ثمة دوافع ومخاوف سياسية دائمة عند كتابة التاريخ وهي متعلقة بقضايا حرجة مثل الصراع الطبقي، وديناميكيات النوع الاجتماعي، والتوترات العرقية، وتشكيلات الهوية، والإرث الإمبراطوري، وروايات ما بعد الاستعمار. يتساءل هذا الكتاب عن التحولات التي تشهدها الكتابة التاريخية، وكيف ينبغي أن يتطور فهمنا للسياسة والديمقراطية جرّاء ذلك؟

على مدى نصف القرن الماضي، شهدت الكتابة التاريخية تحولين محوريين:

 أولاً: موجة التاريخ الاجتماعي المستوحاة من الماركسية وغيرها من أشكال علم الاجتماع المادي، فقد كان هناك صعود في موجة التاريخ الاجتماعي التي أكدت الحاجة إلى تفسيرات اجتماعية. أعطى هذا التحول الأولوية لأهمية فهم الهياكل والحركات المجتمعية والأسباب الكامنة وراء الأحداث التاريخية.

 ثانياً: التحول الثقافي؛ إذ إنه في أعقاب ظهور التاريخ الاجتماعي، كان ثمة «تحول ثقافي» متأثر بالمناقشات النظرية الجديدة. حطم هذا التحول العديد من التفاهمات والثوابت التي أسستها موجة التاريخ الاجتماعي. أدى التحول الثقافي إلى تحويل التركيز نحو التفسيرات والرموز والمعاني في التاريخ.

 وفي قلب هذه التحولات التاريخية كانت هناك دوافع ومخاوف سياسية كامنة متعلقة بقضايا سياسية حرجة مثل الصراع الطبقي، وديناميكيات النوع الاجتماعي، والتوترات العرقية، وتشكيلات الهوية، والإرث الإمبراطوري، وروايات ما بعد الاستعمار وهي التي شكلت كتابة التاريخ.

 أدت هذه التغييرات في الكتابة التاريخية إلى ظهور مناقشات وخلافات، ما قاد المؤرخين إلى عالم من الاحتمالات المعاد تصورها منها: توسيع الآفاق؛ حيث بدأ المؤرخون في النظر في مجموعة واسعة من المواضيع، والتعمق في الجوانب التي تم تجاهلها سابقاً أو لم تتم دراستها كثيراً، وكذلك التعاون متعدد التخصصات؛ حيث أصبح المؤرخون أكثر تقبلاً للنظرية، وبدؤوا في تبني مناهج متعددة التخصصات. وأيضاً المشاركة العامة؛ حيث اضطلع التاريخ بدور جديد في الثقافة العامة، وأصبح المؤرخون أكثر تشابكاً مع الخطاب العام.

 يناقش جيف إيلي العديد من الأسئلة الحاسمة، ومنها ما يتعلق بسد الفجوة؛ إذ يسأل كيف يمكننا التوفيق بين «الاجتماعي» و«الثقافي» في الكتابة التاريخية؟ وكيف يمكن للمؤرخين التعاون بشكل أكثر فاعلية عبر مختلف التخصصات؟ وإذا كان على المؤرخين أن يتبنوا الأطر النظرية بجدية، فما التغييرات التي ينطوي عليها ذلك في ممارساتهم؟ في ضوء التحولات التي تشهدها الكتابة التاريخية، كيف ينبغي أن يتطور فهمنا للسياسة؟

 تغيرات في حقل التاريخ

 يعد هذا الكتاب لجيف إيلي بمنزلة مذكرات شخصية كما يعد مسحاً فكرياً غنياً للتغيرات في حقل التاريخ. يبين فيه المؤلف أن حرفة المؤرخ ليست عملاً منعزلاً؛ بل هي متجذرة بعمق في عصرها، متأثرة بالحوارات الأكاديمية، والمناقشات السياسية، والتحولات الاجتماعية، وهو يترك القارئ يفكر في طبيعة التاريخ المتغيرة باستمرار كنظام وارتباطه المعقد بالعالم الذي يسعى إلى فهمه.

 لا يقدم المؤلف في هذا العمل شكلاً استرجاعياً لكتابه السابق «خط ملتوٍ من التاريخ الثقافي إلى تاريخ المجتمع» فحسب؛ بل يقدم أيضاً امتداداً لأفكاره على مدى ثلاثة عقود. تتبع المقالات الموجودة في هذا العمل، تفاعل إيلي المتطور مع التاريخ كتخصص، بدءاً من أيام دراسته الجامعية في أكسفورد وحتى مسيرته الأكاديمية في جامعة ميشيغان.

 ركز المؤلف في بداياته على أعمال المؤرخين الماركسيين البريطانيين؛ مثل: إدوارد طومسون وإريك هوبسباوم وفيكتور كيرنان أثناء وجوده في أكسفورد، وهذا بدوره جعله يركز على شكل معين من التاريخ الاجتماعي. كما أضافت دراساته العليا في جامعة ساسكس طبقة أخرى من التعقيد من خلال انخراطه في التاريخ الألماني. خلال هذه الفترة، تعرّف المؤلف إلى كتابات هانز أولريش فيهلر ويورغن كوكا اللذين كانا يدافعان عن نهج «العلم الاجتماعي التاريخي» لفهم ماضي ألمانيا. إضافة إلى التأثيرات الفكرية، تأثر المؤلف بشكل معمق بالمناقشات المشحونة سياسياً داخل التاريخ الألماني، بما فيها جدل فيشر ومناظرة سونديرويغ التي شككت في الطبيعة الاستثنائية للمسار التاريخي لألمانيا المؤدي إلى النازية. ولا شك أن انخراطه في هذه المناقشات، جعله متشككاً بشأن حدود التاريخ الاجتماعي كأداة لشرح الحقائق السياسية المعقدة.

 بحلول أواخر السبعينات والثمانيات، عندما وصل إيلي إلى جامعة ميشيغان، كان مجال التاريخ يخضع بالفعل للتحول. كان التاريخ الاجتماعي يواجه النقد، وظهرت نماذج جديدة مثل نظرية النوع الاجتماعي، وأطر فوكو، ودراسات الجنس، والأنثروبولوجيا التاريخية. تبلور هذا التحول على أنه «التحول الثقافي»، الذي أدى إلى تعطيل التركيز السائد سابقاً على التاريخ الاجتماعي.

 رحلة تاريخية مضطربة

تنظر الفصول الأولى من الكتاب إلى الرحلة المضطربة من التاريخ الاجتماعي إلى التاريخ الثقافي، وتلتقط التغييرات في التخصص بعمق ودقة. ولا يعد المؤلف هنا مجرد مشارك؛ بل أيضاً يعد مؤرخاً لهذه التحولات؛ حيث يقدم رؤى قيّمة حول تطور الفكر التاريخي الحديث.

 يناقش الفصل الأول من الكتاب «التحول اللغوي» في التاريخ، ويسلط الضوء على شخصيات رئيسة مثل ويليام سيويل وغاريث ستيدمان جونز. تحدى المؤرخون الاجتماعيون الفهم التقليدي للعمل والطبقة. وفي الوقت نفسه، أكدت جوان سكوت دور النوع الاجتماعي كفئة تحليلية. قدم هذا التحول نهجاً متعدد التخصصات، يتضمن الأنثروبولوجيا، والدراسات الأدبية، والدراسات الإعلامية، والدراسات الثقافية. ومع ذلك، أدى هذا الاتساع إلى مخاوف بين المؤرخين الاجتماعيين بشأن إغفال «المجتمع» كسياق.

 يركز الفصل الثاني على ظهور «تعدد التخصصات» داخل أقسام التاريخ الأكاديمي في الثمانينات. يشارك المؤلف تجاربه الشخصية في بيئات أكاديمية مختلفة؛ حيث تعمل جامعة ميشيغان كمثال على العمل الناجح متعدد التخصصات. هنا، جسّد برنامج الدراسة المقارنة للتحول الاجتماعي، روح التعاون عبر التخصصات في الولايات المتحدة. وقد دفع هذا المؤرخين إلى إعادة النظر في ممارساتهم الأساسية وأسسهم المعرفية، وسط المناقشات المستمرة بين المؤرخين الاجتماعيين والثقافيين.

 يوضح المؤلف في الفصل الثالث عملية التفكير وراء كتابه «خط ملتوٍ». كان الهدف هو استكشاف الانتقال من التاريخ الاجتماعي إلى التاريخ الثقافي، باستخدام رحلته الشخصية كعدسة. يهدف المؤلف إلى التقاط التعقيدات والشكوك الكامنة في الاستكشاف الأكاديمي. ويدعو هذا الفصل إلى «التعددية الأساسية» واتباع نهج متوازن لا يفرض الاختيار بين التاريخ الاجتماعي والثقافي. ويناقش أيضاً التأثيرات الدقيقة والمباشرة للسياسة في التأريخ. باختصار، تتناول هذه الفصول في الجزء الأول من الكتاب، التطور والمناقشات في مجال التاريخ، من الانتقال إلى تعدد التخصصات إلى النضال من أجل تحديد هدفه الأساسي ومنهجيته. يدعو المؤلف إلى اتباع نهج تعددي أكثر دقة، مع الاعتراف بقيمة وتعقيدات العمل متعدد التخصصات.

 إعادة النظر في الجانب السياسي

 أما في الجزء الثاني من الكتاب، والمكون من أربعة فصول. يركز الفصل الأول والثاني منه، على يورغن هابرماس ومفهومه عن «المجال العام».

 يتتبع الفصل الأول من هذا الجزء والرابع في تصنيف فصول الكتاب، أصول هذه الفكرة إلى قيم التنوير حول التواصل العقلاني والسياسة الإجرائية. يختبر الفصل أيضاً هذه النظرية في مقابل التواريخ المختلفة، بما في ذلك النوع الاجتماعي، وتكوين الدولة، والثقافة. 

 يستكشف الفصل الخامس كيف طبق المؤرخون مفهوم هابرماس لدراسة التواريخ الجديدة للمجتمع المدني. على الرغم من بعض القيود في عمل هابرماس الأصلي، فقد ظهر أن «المجال العام» هو أداة مفاهيمية مفيدة لربط الحياة اليومية بالعمل السياسي.

 يناقش الفصل السادس تاريخ الحياة اليومية، الذي ظهر في ألمانيا في السبعينات كرد فعل على تضاؤل القدرة السياسية بين الطبقة العاملة. ويعرض الفصل لمحة عن أعمال العلماء البارزين مثل هانز ميديك، وأديلهيد فون سالديرن، وألف لودتكي. تغطي أبحاثهم موضوعات وفترات متعددة، مثل المجتمع الريفي وتاريخ المرأة. ويعود الفصل السابع إلى بريطانيا، مع التركيز على مركز الدراسات الثقافية المعاصرة في جامعة برمنغهام. كان لهذه المؤسسة تأثيرها الرائد في التاريخ الثقافي الجديد. يتساءل الفصل عن الأهمية المستمرة لهذا المركز، مع تأكيد أن دراسة الثقافة بالنسبة لمؤرخيها ضرورية لممارسة الديمقراطية.

 تنامي المخاوف

في الجزء الثالث بعنوان «تنامي المخاوف»، يتناول الفصل الثامن نطاق مناقشة الإمبريالية البريطانية، وخاصة تأثيرها في الحياة اليومية. واستلهاماً من علماء مثل بول غيلروي، يجادل الفصل بأن الأمم ليست منفصلة عن الإمبراطوريات ولكنها في الواقع تتشكل من خلال الأنشطة الإمبراطورية. شكلت الفتوحات الإمبراطورية الثقافة المادية للحداثة.

 يتناول الفصل التاسع «الخيال الإمبراطوري» لألمانيا، وكيف تم تعميم الإمبراطورية الاستعمارية وحياتها الآخرة في العصور النازية وما بعد الحرب. وهو ينتقد الروايات التاريخية التقليدية التي ترى الإمبراطورية الألمانية كرد فعل على الضغوط الداخلية، ويدعو إلى فهم أوسع لمشروع ألمانيا الاستعماري الذي يشمل سياقاته الدولية وتأثيره في المجتمع الألماني.

 يتناول الفصل العاشر موضوع العولمة، وخاصة ما بعد 11 سبتمبر/ أيلول. وهو ينتقد المفاهيم البريطانية والأمريكية للقوة العالمية ويدعو إلى فهم تاريخي أكثر دقة للعولمة. ويؤكد الفصل الحاجة إلى وضع العمل والتبعية الاجتماعية في مركز أي شكل من أشكال صعود العولمة ويستكشف إمكانات تحدي جوانبها السلبية من خلال المجتمع المدني العالمي.

 يقدّم الفصل الأخير لمحة عن ستيوارت هول، أحد رواد الدراسات الثقافية ومركز الدراسات الثقافية المعاصرة. تم تأكيد اعتقاد هول بأن الثقافة أمر بالغ الأهمية ليس فقط لفهم الاستقرار الاجتماعي ولكن أيضاً لتشكيل النقد والمقاومة.

 على العموم، يجادل المؤلف بأن التاريخ لا يفقد هويته أو فاعليته من خلال دمج تخصصات أخرى؛ بل يكتسب فهماً أوسع وأكثر دقة للماضي، والذي بدوره يساعدنا على فهم الحاضر والتشكيك فيه. ويشير إلى أن هذا النوع من كسر القواعد وتجاوز الحدود يثري النظام، ويسمح له «باستعادة الماضي» بشكل أكثر فاعلية ويقدم فهماً أعمق للحاضر. وهذا التوسع في النطاق إيجابي بطبيعته، ما يساعد المؤرخين والقرّاء على فهم تعقيدات التاريخ والثقافة والسياسة بشكل أكبر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن المترجم

نضال إبراهيم
https://tinyurl.com/26adrr9b

كتب مشابهة

1
جوشوا فيراسامي
1
بول هانزبري
1
أنجيلا بورن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"

المزيد من الكتب والكتاب

تظاهرة عمالية في ألمانيا
ستيفانيا باركا
1
آدم تشابنيك وآسا مكيرشر
1
ريتشارد يونغس
خلال قمة أوروبية سابقة
مارك ساكليبن
1
تياجو فرنانديز
1
كجيل أوستبيرج