أوروبا الجيوليبرالية واختبار الحرب

يقدم العمل الأخير لريتشارد يونغس «أوروبا الجيوليبرالية واختبار الحرب»، دراسة عميقة وفي توقيت مناسب للأثر التحويلي الذي خلفه غزو روسيا لأوكرانيا على القارة الأوروبية. ففي الوقت الذي تسعى فيه أوروبا إلى تأسيس عصر استراتيجي جديد، يقدّم هذا الكتاب تحليلاً للديناميكيات المعقدة التي تعيد تشكيل السياسات الأوروبية واستجابة الاتحاد الأوروبي لهذه اللحظة الفارقة في التاريخ.

يفصّل يونغس بعناية العوامل المختلفة التي تؤثر في السياسات الأوروبية بعد الحرب، ويغوص في تفاصيل دمج الاتحاد الأوروبي، والقوة الجيوسياسية، وأولويات الدفاع، وحدود أوروبا. كما يمتد تحليله إلى موضوعات حاسمة تعد جميعها ضرورية لفهم المشهد السياسي الأوروبي الحالي والمستقبلي؛ مثل القيم الليبرالية، والانتقال الأخضر، والسيادة الاقتصادية.

إحدى المساهمات البارزة في هذا الكتاب، الصادر عن دار «أجندة» بتاريخ 16 إبريل 2024 بالإنجليزية، هي تطوير يونغس لمفهوم «الجيوليبرالية»؛ هذه الفكرة تعمل كإطار لمعالجة التحديات المتعددة التي تواجهها أوروبا وتقدم توجيهات للحكومات الأوروبية والاتحاد الأوروبي أثناء تنقلهم في النظام الجديد الهش الذي بدأ يظهر في أعقاب الحرب في أوكرانيا.

تظهر خبرة المؤلف طوال الكتاب، فهو زميل أول في كارنيجي أوروبا وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة وارويك، وهو صوت رائد في الدراسات الأوروبية. من موقع خبرته، يجعل القضايا الجيوسياسية المعقدة مفهومة لجمهور واسع في هذا العمل، فهو يوازن بفاعلية بين الرؤى النظرية والاعتبارات العملية، ليضمن أن الكتاب ليس مجرد معلومات فحسب، بل ذو صلة بالنقاشات السياسية الحالية. تشكّل النظرة المستقبلية للكتاب قيمة خاصّة، حيث تحدد القضايا والخيارات الحاسمة التي يجب على الحكومات الأوروبية مواجهتها في السنوات المقبلة.

يبدأ الكتاب بمقدمة تعرض السياق العام والأهمية الاستراتيجية للحرب في أوكرانيا، يقول فيها: «الحرب مأساة لأوكرانيا، ولكنها تمثل أيضاً تحدياً تحويلياً للنظام الأوروبي بأكمله. إلى جانب الفظائع والتغيرات اليومية في ديناميكيات المعركة، ثمّة تداعيات عميقة للصراع الروسي في أوكرانيا على السياسة والأمن الأوروبيين. تثير الحرب، إلى جانب المعاناة الإنسانية والعنف، أسئلة عميقة حول الطريقة التي يتم بها تنظيم الأمن والاقتصاد والسياسة الأوروبية بالكامل. الحرب ليست مجرد صراع منفصل، ولكن لها تأثيرات هيكلية وقارية. ما يمكن أن يشار إليه ب«النظام الأوروبي» تعرّض لزعزعة حتى الأعماق».

ثم ينتقل المؤلف لدراسة الأحداث التي أدت إلى هذا الصراع في فصل «الطريق إلى الحرب»، ويتطرق إلى «تعزيز الأسس الأوروبية» من خلال تقوية البنية التحتية الأوروبية، ويناقش في «أوروبا تتسلح من جديد» التركيز على القدرات الدفاعية. أما الفصلان التاليان، «إعادة تحديد الحدود الأولى: الإقصاء» و«إعادة تحديد الحدود الثانية: الشمول»، فيستعرض فيهما المؤلف كيفية التعامل مع الحدود الأوروبية بطرق تعزز الإقصاء أو الشمول.

ويبحث فصل «اكتشاف النظام الديمقراطي من جديد» في تجديد الديمقراطية الأوروبية، بينما يعالج «الانتقال الأخضر كنظام أوروبي» التحول نحو السياسات البيئية المستدامة. ويختتم الكتاب بفصلي «النظام والأمن الاقتصادي» و«نحو أوروبا جيوليبرالية»، حيث يقيّم المؤلف الاعتبارات الاقتصادية ويستشرف تأثير النظريات الجيوليبرالية على مستقبل السياسات الأوروبية.

يعدّ هذا العمل مورداً غنياً للفهم العميق للتحولات الجيوسياسية والاجتماعية الجارية في أوروبا، وهو ضرورة لكل من يهتم بالسياسة الأوروبية، والعلاقات الدولية، وتأثير حرب أوكرانيا في الجيوسياسية العالمية.