سرديتان أيديولوجيتان

00:31 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

ما من تماثل أو شَبَه بين الآخَر لدى فريقٍ من النّخبة الثّقافيّة العربيّة الحديثة والآخَر لدى فريقٍ ثانٍ منها، بل هما في ذلك مختلفان تماماً وعلى نحْوٍ من التّضادّ يعتاصُ معه على القارئ في صورتيْهما، كما ترتسمان في الخطابين المتقابليْن، أن يعثُر على مشتَرَكات يتكوّن بها معنًى عامٌّ جامعٌ لذاك الآخر في الوعي العربيّ. إنْ أخذنا المقالتيْن الرّئيستين في الفكر العربيّ المعاصر - مقالة الأصالة ومقالة الحداثة - سنعْثُر، حكماً، على مصاديق هذا الذي نقوله وسنجدنا، بالتّالي، أمام آخَريْنِ نقيضيْن؛ ولكنّهما نقيضان في وعيٍ يتمثّلهما (أو قُل، في وعييْن يتمثّلانهما) لا في الواقع: حيث الآخَر واحدٌ في ذاته وإنْ تَعَدَّد في تمثُّلات غيره.

آخَر الأَصَاليّين - وهو الغرب - رمْزٌ حيٌّ حديث لذلك العالَم (الصّليبيّ) الذي كاد، وما بَرِح يَكيد، للإسلام (لدى دعاة الأصالة) والذي استمرّ يُفصِح عن نيّاته العدوانيّة في العصر الحديث من طريق الغزو الاستعماريّ، والاستيلاء العنيف، والسّيطرة وانتهاج سياسات مسْخ الشّخصيّة الثّقافيّة للأمّة، وزرْع القيم الماديّة الحديثة - زرعاً قيصريّاً - من خلال (وبواسطة) الإدارات الاستعماريّة في البلاد العربيّة الإسلاميّة...إلخ. يزيد على قوْل الأَصَاليّين جرْعاتٍ زائدةً من النّقد فريقٌ لا ينتمي ثقافيّاً إليهم وإلى مقالتهم (دعاةُ الخطاب الوطنيّ والقوميّ واليساريّ)، ولكنّه يتقاطع معهم في نقد الغرب؛ فيرى في ذلك الغرب تجلياً مَرَضيّاً لنزْعاتٍ شتّى: لنزعة التّمركز الذّاتيّ، وللنّزعات الإمبرياليّة، والصّهيونيّة، والنّازيّة، والعنصريّة ولنزعات الاستعلاء والتّفوُّق: العرقيّ، والدّينيّ، والحضاريّ، واللّسانيّ...، وبيئةً خصبة لتنامي ثقافة القوّة العمياء والحرب والإخضاع القسريّ للعالم بأدوات القتل، أو بأدوات الهيمنة الاقتصاديّة والماليّة، أو سياسات الإقراض والدّيون، أو التّبادل غير المتكافئ، أو العولمة الهوجاء والمجحِفة...إلخ. وبكلمة، يَجْمع بين هذين المكوّنيْن - الأَصاليّ والنّضاليّ - في الفريق الأوّل النّظر إلى الغرب بما هو قرينة على الشّرّ المطلق.

في المقابل، يرسم الحداثيّون صورةً أخرى مختلفة وورديّة للغرب. يفعل ذلك، على نحوٍ خاصّ، اللّيبراليّون منهم لا الماركسيّون؛ هؤلاء الذين يحتفظون لأنفسهم بمسافة نقديّة تجاه نموذجه الاجتماعيّ- السّياسيّ، بل ويلتقون مع الفريق الأوّل في نقده الحادّ والتّشنيع عليه (ولكن بمفردات مدنيّة وليس دينيّة). هو، عند اللّيبراليّين العرب، عكس ما هي عليه صورتُه عند غيرهم: هو رمزٌ للنّهضة، والإصلاح الدّينيّ، والتّسامح، والثّورة العلميّة، والثّورة الصّناعيّة، والعقل، والدّستور (الأمريكيّ)، والثّورة الفرنسيّة، وثورات التّوحيد القوميّ، والدّيمقراطيّة، والعلمانيّة، وحقوق الإنسان، والمساواة، وحقوق المرأة...إلخ. وبكلمة، ينظر هذا الفريق إلى الآخَر (الغرب) بما هو قرينة على الخير المطلق؛ النّموذج- المثال الذي ينبغي أن يكون مرجعيّاً لدى أُمم العالم كلِّه، فيُحْتَذَى ويُنْسج على منواله في البناء الاجتماعيّ والثّقافيّ.

نجد لهذا التّقابُل الصّارخ لصورتيْ الآخَر في الوعي العربيّ رديفاً في نظرة هذا الوعي إلى الأنا، وفي إنتاجه سرديّتيْن نقيضتين لها. الأنا، في مخيال الأصَاليّين، رمز للنّهوض، والرّسالة التّاريخيّة، والحضارة، والاجتهاد، والعدل، والثّقة بالذّات...، وهي سليلةُ كلّ ذلك التّراكم الحضاريّ (العربيّ الإسلاميّ) الهائل وعُصارتُه؛ أمّا لدى المعظم من الحداثيّين فالأنا تجسيدٌ لِطغيان السّلطان، وقمع الرّأي، وهيمنة ثقافة التّكفير وفرض الرّأي الواحد، ووأْد الاجتهاد، واضطهاد المرأة، وتصفية المخالفين، والتّحجُّر والانحطاط...إلخ. هكذا نجدنا أمام صورتين متقابلتين لا جامع يَجْمع بينهما، وكأنّهما تتعلّقان بأُقنوميْن اثنيْن لا بواحد (إن جاز لنا أن نستعير مفاهيم اللاهوت المسيحيّ). نعم، ليس في السّرديّة الواحدة من المعطيات والسّمات والتّسميات ما في السّرديّة الأخرى وكأنّما الأمر لا يتعلّق بالحديث على المسألة عينِها فيهما معاً، بل لكلٍّ منهما مسألتها التي يجري عليها الكلام!

هل التّقابُل هذا في السّرديات، المومأ إليها، هو - على الحقيقة - تقابُلٌ داخل كلِّ حدٍّ من الحدّيْن (الأنا، الآخَر) ينطويان عليه تكويناً وطبائعَ، أم تقابُلٌ بين خطابين تنعدم بينهما، تقريباً، مساحاتُ لقاءٍ واشتراك؟

هو، في الواقع، تقابُلٌ فيهما معاً: نعني في الظّاهرة (الأنا/الآخَر) وفي الخطابات المنسوجة عنها من لدن النّخب الفكريّة. ولكن مع اختلافٍ يَحْسُن وعْيُه؛ إذْ بينما هو تقابُلٌ واقعٌ على صعيد الظّاهرة بأثرٍ من عواملها وديناميّاتها الدّاخليّة المتناقضة، هو واقعٌ على صعيد الخطابيْن لسببٍ آخر مختلف هو: استواء كلٍّ منهما على قاعدة أيديولوجيّة تمنع الوعيَ من أن ينسُج إدراكاً موضوعيّاً مطابِقاً للظّاهرة التي يتناولها: أعني الأنا والآخَر.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdemkub3

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"