العروبـة بوصفها خـامة الوحـدة

00:28 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

ينفرد النّموذج السّياسيّ- الكيانيّ القائم في البلاد العربيّة عن سواه من نماذج الدّولة السّائدة في العالم، وتحديداً في صلاته بمادّته الاجتماعيّة التي يقوم عليها ويمثلها. لم يعرف الوطن العربيّ، في العصر الحديث، نموذج الدّولة- الأمّة من النّمط الفرنسيّ أو الألمانيّ أو الإيطاليّ؛ حيث يقع في هذا النّموذج التّطابُق التّام بين أمّةٍ مّا ودولة حقّقت في نطاقها تلك الأمّة وحدتها القوميّة، مع أنّ هذا النّموذج أغرى الوعي السّياسيّ العربيّ، منذ نهايات القرن التاسع عشر، شديد الإغراء وابْتُنِيَتْ عليه الفكرةُ القوميّة العربيّة ومشروعُها السّياسيّ لتوحيد الأمّة منذ نيّفٍ ومائة عامٍ من الزّمان...

ولم يعرف الوطن العربيّ، ثانياً، نموذج الدّولة متعدّدة القوميّات من النّمط السّوڤييتيّ واليوغوسلاڤيّ (قبل انفراطهما في عقد التّسعينات من القرن الماضي)؛ لأنّ قيام مثل هذا النّمط المُركَّب، والفائض عن نموذج الدّولة- الأمّة (أو الدّولة القوميّة)، يفترض أن تكون تلك الدّولة الموحّدة قد قامت على يد قوميّة بعينها (الرّوسيّة في الحالة السّوڤييتيّة والصّربيّة في الحالة اليوغوسلاڤيّة) قبل أن تهتديَ إلى صيغة الدّولة المُركَّبة متعدّدة القوميّات، ولم تكن تلك حال البلاد العربيّة التي لم تعرف نموذج الدّولة الواحدة الموحَّدة.

  ثمّ إنّ الوطن العربيّ لم يعرف، ثالثاً، نموذجَ اتّحادٍ بين دوله على مثال «الاتّحاد الأوروبيّ» يحقّق الشّراكة والاندماج الكامليْن فيه من دون إلغاء سيادات دُوله، مع قليلٍ من التّنازل عنها سياسياً قصد بناء سياسة موحَّدة للاتّحاد. وما كان سبب عدم قيام مثل هذا الاتّحاد بين الدّول العربيّة أنّها ليست دولاً قوميّة، مثل فرنسا أو ألمانيا أو إسپانيا أو إيطاليا..، بل لأنّه ليس لدى السّياسة العربيّة الرّسميّة مشروع من هذا النّوع، وإطار جامعة الدول العربيّة المتاح لا يُراد الارتفاع به إلى مستوى الاتّحاد على مثال ارتفاع دول أوروبا بإطار «الجماعة الأوروبيّة» التّعاونيّ إلى اتّحاد، بل اكْتُفِيَ بالإبقاء عليه عند حدوده المعتاد عليها.

  كلّ الذي عرفه الوطن العربيّ من كيانات سياسيّة هو ما يطالعه كلُّ واحدٍ منّا، اليوم، في الواقع الخارجيّ: دولٌ عديدة جاوزتِ العشرين في فضاءٍ اجتماعيّ عابرٍ لحدودها تَشْغَله أمّةٌ واحدة. حين نُحْسِن الظّنّ بهذه الدّول ونقرأ تجاربها بإيجابيّة، نسمّيها دولاً وطنيّة ونلتمس لها بعضَ المشروعيّة من طريق القول إنّها أتت تمثِّل وطنيّات تبلورت شخصيتها في التّاريخ، وتجتهد في ابتناء لحمتها من خلال سياسات الصّهر والاندماج الاجتماعيّ. وحين نُسيء الظّنّ بها - وذلك ما دَرَج عليه الخطابُ القوميّ - نرى إليها بوصفها تجسيداً كيانياً لفعل التّجزئة الكولونياليّة للوطن العربيّ، أو نكتفي - عند التزام الحياد في الأحكام - بتسميتها دولاً قطريّة تعبيراً عن محدوديّة مجالها الجغرافيّ والبشريّ مقارنة بجغرافيا انتشار الأمّة وسعَتِها البشريّة.

 هي، إذن، أمّة واحِدة في التّاريخ (الماضي) وفي الذّهن، ولكنّها في الواقع الفعليّ منقسمةٌ إلى أَبْعاض. ليس يخلو تاريخها الحديث من توحيد: توحيد نجد والحجاز وملحقاتها في دولة (المملكة العربيّة السّعوديّة)؛ توحيد مصر وسوريّا في دولة («الجمهوريّة العربيّة المتّحدة») قبل انفراط عقدها؛ وتوحيد إمارات الخليج السّبعة في دولة (الإمارات العربيّة المتّحدة)، ناهيك من إعادة توحيد شطريْ اليمن. ما خلا ذلك توقّفت آليةُ التّوحيد عن العمل في الفضاء العربيّ.. اللّهم ما كان من صُوَر التّعبير الثّقافيّ والدّعويّ عن الفكرة الوحدويّة العربيّة.

  ومع أنّ هذه الفسيفساء الكيانيّة أمرٌ واقع معتَرَف به في القانون الدّوليّ ويحظى بمقبوليّةٍ مجتمعيّة عارمة؛ ومع تمسُّك كلّ دولةٍ عربيّة باستقلالها وسيادتها، إلاّ أنّها جميعَها دولٌ تعترف بانتمائها العربيّ في دساتيرها، وتكرِّس العربيّةَ لغةً رسميّة فيها، الأمر الذي يُسْتفاد منه أنّها ليست، في جوهرها، حالةً انشقاقيّة عن العروبة بما هي رابطة جماعيّة؛ وهذا ممّا يتيسَّر معه كلُّ جَهْدٍ توحيديّ في الدّائرة العربيّة تكون وراءهُ الدّول أو الحركات الاجتماعيّة.

ولقد رأينا كيف تداعَتِ السّاحاتُ العربيّة للانتفاضة التّونسيّة (نهاية 2010) بالتّجاوُب والتّفاعل اللّذيْن يُبرّرهما ذلك المُشْتَرَك الثّقافيّ والنّفسيّ. سيُقال إنّ تلك السّاحات اشتعلت بفعل فاعلٍ خارجيّ - وفي القول هذا كثيرٌ مِن الصّحّة - ولكن هل كانت طبخة الفاعل الخارجيّ لتستويَ لولا تلك القابليّة الذّاتيّة في مجتمعاتنا: التي يُمثّلها ذلك المشترَك العروبيّ؟ لا نُدْحة، إذن، عن العودة إلى جدليّة وحدة الأمّة وتعدّديّة الوطنيّات لكي نفهم أوضاع الاجتماع العربيّ على الحقيقة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdehwh6y

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"