في أصول السيادة

01:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

تربط السّيادة بالاستقلال علاقة تَلازمٍ ماهويّ هي علاقةُ فرعٍ بأصل ومعلولٍ بعلّة. على أنّها ليست علاقةً أحاديّة الجانب، بل تقوم بين الحدّيْن معاً؛ ما من استقلالٍ ممكنٍ لكيان دولةٍ مّا إن لم تتمتّع هذه بسيادتها على أراضيها وحدودها ومياهها وثرْواتها، وبالوَلاية السّياسيّة والقانونيّة على مواطنيها؛ وما من سيادةٍ يمتكن أمْرُها إلاّ في نطاق دولةٍ تتمتّع بالاستقلال السّياسيّ الكامل، فالدّولة التي تفقد استقلالَها - كلاًّ أو جزءاً - تفقد سيادتَها بالتّبِعة، وحينها لا يقال عنها إنّها دولةٌ سيّدة إلاّ على سبيل المجاز.

بالمعنى نفسِه قد يحدُث أن يُنَالَ من الاستقلال كلّما نِيلَ من السّيادة وتعرّضت للانتقاص؛ إذِ السّيادةُ معيارُهُ الذي تتحدّد به أحوالُه: سلامةً وسوءاً، قوّةً وضَعْفاً، اكتمالاً ونقصاً؛ وهو (الاستقلال) الدّليلُ عليها استواءً أو ارتفاعاً، توطُّداً أو تلاشيّاً. لا غرابة، إذن، في أن لا يُطْلَق وصفُ الدّولة الوطنيّة، على التّحقيق، إلاّ على الدّولة التي تتمتّع باستقلالها التّامّ، وأن تتنزّل نظريّةُ السّيادة بمنزلة الحجر الأساس في معمار نظريّة الدّولة الوطنيّة، فَصِلاَتُ الوصْل بين الاثنتيْن تمتدّ إلى حيث تصير الواحدةُ منهما اسماً للثّانيةِ وعنواناً.

ولأنّ استقلال دولة مّا كلٌّ لا يتبعّض، كذلك سيادتها غير قابلة للقسمة فلا تكون إلاّ كُلاًّ وإلاّ بَطَل معناها ووجودها. بهذا المعنى لا تكون حالة استقلال الدّولة ممكنة مع فقدانها السّيادةَ على جزءٍ مّا ممّا يقع في جملة ما عليها أن تَبْسُط سلطانَها عليه؛ كما لا تكون دولة سيّدة إنْ عَرَض لسيادتها ما يُفْقِدها حيِّزاً من أحيازها يجعل استقلالها عرضةً للانتقاص أو للتتَّبعيّة، ولو في حدٍّ جزئيٍّ منها. هذا التّعريف بعلاقة الترابط بين الاستقلال والسّيادة ضروريٌّ لفهم منطق بنيان الدّولة الحديثة، أعني الدّولة على الحقيقة، وتفادي لعبة إسقاط مفاهيم السّياسة الحديثة على حالاتٍ من الأُطر السّياسيّة لا تَقْبل الاندراج تحت أحكام تلك المفاهيم.

ما أكثر الحالات التي نقف فيها على عدم إدراك علاقة التّرابط تلك: سواء في ما يكتب في الموضوع أو في ما يقال. تجد مَن يتحدّث، مثلاً، عن دولةٍ مستقلّة لا سيادة لها على جزءٍ من أراضيها خاضعٍ لاحتلال دولةٍ أخرى؛ مثلما نجد من يتحدّث عن دولةٍ سيّدة «تستضيف» عشرات القواعد العسكريّة الأجنبيّة على أراضيها. بأيّ معنًى نفهم استقلالها في الحالة الأولى، وبأيّ معنًى نفهم سيادتها في الحالة الثّانية؟ نسمع، أيضاً، من يتحدّث عن إمكان وجود حالٍ من تبعيّة دولة على قاعدة استقلالها السّياسيّ، فيُسْتدلّ على ذلك بحال أكثر دول الجنوب حين حصولها على استقلالاتها السّياسيّة - غِبّ الجلاء الاستعماريّ عنها - وبقاءِ بنياتها الاقتصاديّة خاضعةً لبنيات البلدان المستعمِرة لها سابقاً؛ ولكن من غير أن يَسأل المستدِلُّ نفسَه إنْ كان فقدان سيادة الدّولة على مقدّراتها الاقتصاديّة يُبقي لها شيئاً من الاستقلال؛ وهذا خُلْفٌ في نظريّة السّيادة.

من البيّن أنّ مفهوم السّيادة، في أصوله النّظريّة في فلسفة القانون وفي تطبيقاته السياسيّة الحديثة، يشير إلى سلطة لا تتجزّأ ولا هي قابلة للتّفويت. هكذا فهمه جان بودان، وتوماس هوبس، ومونتسكيو، وجان جاك روسو...، وهكذا طبّقته الدّول الأوروبيّة، بعد حرب الثلاثين عاماً، في ما بينها قبل أن يبدأ إيمانويل كَنْت، في النّصف الثّاني من القرن الثّامن عشر، في التّفكير في كونيّةٍ تتجاوز حدود السّيادات الوطنيّة.

هذا معتقدٌ مفهومٌ، تماماً، إنْ أُخِذ في الحسبان مركزيّته في تصوُّر الدّولة الوطنيّة وفي بنائها الواقعيّ في تلك الحقبة من خروج الأمم الأوروبيّة من ظلام الحروب الأهليّة الدّاخليّة والحروب البينيّة الذي خيّم عليها طَوال ما يزيد على مئة عامٍ فاصلة بين أواسط عشرينات القرن السّادس عشر ونهاية أربعينات القرن السّابع عشر؛ لقد كان تفويت السّيادة يعني نقضاً كاملاً لمنطق الدّولة الوطنيّة وهدماً لأهمّ مرتكزاتها، وبالتّالي، مدخلاً محتملاً إلى العودة إلى الحرب الدّائمة المفتوحة بين الأمم وداخل الأمّة الواحدة.

تلك كانت أصول السّيادة في الفكر وفي التّاريخ. تَحَقَّقَ الكثير منها خلال الفترة ما بين منتصف القرن السّابع عشر ونهايات القرن التّاسع عشر، لذلك قامت الدّولُ الوطنية الحديثة واستتبّ لها الأمر في ذلك العهد. غير أنه، في الأثناء، كانت تنشأ، بالتّوازي، أوضاعٌ جديدة - أوروبيّة ابتداءً ثمّ عالميّة تالياً - جذّفتْ معطياتُها ضدّ تيّار هذه السّيادة الوطنيّة المُغْلَقَة على حدودها، وفرضت - مع الزّمن- وعياً متدرِّجاً بنسبيّتها؛ ولقد كان ميلاد النّظام الرّأسماليّ وتوسّعُه التّدريجي واحداً من أهمّ العوامل الباعثة على تعديل معنى السّيادة وصورتها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/57n7ddv3

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"