الذهني والواقعي في ظواهر السياسة

00:51 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

كل تفكير في السياسة وظواهرها ومؤسساتها مدعو إلى الولوج إلى موضوعه من مسلكيْن: من الفكر ومن التاريخ؛ أعني من النّظريّة السّياسيّة في أصولها الفلسفيّة، ومن الواقع التاريخي لتلك الظّواهر السّياسيّة على نحو ما هو جارٍ ومتحقّق. والعمليّتان معاً، وإنِ اختلفتا في الطّبيعة، مبررتان في حقل البحث العلميّ، بل لا سبيل إلى تناول ظواهر الاجتماع الإنسانيّ إلا من طريق الجمْع بينهما. أمّا بيانُ موجبات الجمْع بين المقاربتيْن ودواعيها، ففي أنّ فهْمَ الظّواهر السّياسيّة يستلزم النّظر إليها في بُعْديْن منها يصعب الفصلُ بينهما: الأول منهما متّصل بالوضع النظري الاعتباري للظاهرة المدروسة وعملية المَفْهَمَة Conceptualisation الضرورية للظاهرة قصْد درْسها؛ فيما يتصل الثاني من البُعديْن بالوضْع الواقعي- التاريخي للظاهرة وحاجة الدرس العلمي إلى اعتباره مادّة التّحليل الأولى.

تتبيّن المسألةُ أكثر كلّما أخذنا في الحسبان أنّ الظّاهرة السّياسيّة المدروسة تحتاج في درْسها إلى لحظتيْن معرفيّتين متمايزتين ولكنّهما، في النّتائج التي تُفْضيان إليها، متكاملتان:

اللّحظة المعرفيّة الأولى لحظةٌ نظريّة. ما من طريقةٍ إلى معرفة ظاهرةٍ إلا من خلال مَفْهَمتها، أي من طريق تجريدها نظريّاً وتناوُلها بما هي مفهوم. إذا لم تُدْرَك ظواهرُ السّياسة (الدّولة، السّلطة، القانون، المجتمع، الفرد، المواطَنَة، الحريّة، الحقّ، التّعاقد...إلخ) بوصفها مفاهيم، في المقام الأوّل، تتوسلها، أدوات وسيطة، لمقاربة الموضوع، لن يسعنا، حينها، أن نبنيَ معرفةً عنها، كلّ الذي قد نستطيعه هو أن نكتفيَ بوصف أحوالها الجارية المحسوسة؛ وليست هذه من المعرفة في شيء، ولا الحِسّ من عُدّتها وعتادها.

لذلك، لا بدّ، عند كلِّ تناولٍ لظاهرةٍ من ظواهر السّياسة والاجتماع السّياسيّ، من أن نعود إلى مفهومها في وضعه النّظريّ، ليس من أجل أن نجعله معياراً ذهنيّاً نحْكُم به على الظّاهرة في تجلّيّاتها الماديّة والواقعيّة، بل لكي نتميَّز ظاهرةً من ظاهرةٍ (الدّولة من السّلطة، مثلاً، أو المواطن من الفرد...)، فلا نخلط بينهما، على نحو ما يجري على أوسع النّطاقات، الفكريّة والحركيّة؛ ناهيك بحاجتنا إلى ذلك لنتقصّى وجوه تطوُّر الظّاهرة تلك، وما إذا كانت ستستعصي على الدّخول تحت نموذجها الذهني النظري أم أنّها تقطع شوطاً من التّعبير عنه أم هي تضيف إليه سمات جديدة.

اللحظة المعرفية الثانية لحظة واقعية، تجري في التاريخ. ظواهر الاجتماع السياسي ظواهر تاريخية، في المقام الأول، قبل أن تكون مفهومات أو كائنات نظرية. صحيح أننا نحتاج إلى المفاهيم لفهمها، من حيث هي ظاهرات، ولتكوين معرفة بها، ولكن المفاهيم تلك لا تكفي إنْ لم نضع تلك الظواهر في سياق تواريخها الخاصة وفي نطاق ديناميات التطور الاجتماعي المحيطة بها، لكي ندركها، على الوجه الصحيح، في تجلياتها الواقعية. الدراسة النظرية المفهومية للدولة أو للسلطة أو للمواطن أو للدستور تضعنا أمام نموذج ذهني واحد وتُطْلِعُنا على مُطْلَقِ دولة أو سلطة أو مواطن أو دستور، أمّا التحليل التاريخي فيطْلعنا على طيْف واسع من الدول وأنظمة الحكم في اختلاف نماذجها وتَفاوُتِ تطوُّرها، وفي مدى قربها أو البعد من ذلك النّموذج الذّهنيّ الذي يمثّله المفهوم.

على أنّ اللّحظتين المعرفيّتين مترابطتان، مع ذلك، بحيث تأخذنا الواحدة منهما إلى الأخرى، حكماً، وعلى نحوٍ موضوعيّ يفرضه منطقُ معرفةِ الوجود الاجتماعي. يمتنع على الفكر تحليل ظواهر السياسة كما تجري في الواقع (اللحظة الثانية) إنْ هو تنكب عن واجب العودة بالظاهرة المدروسة إلى أصولها المفهومية (اللحظة الأولى) متوسّلاً عُدّةً مفهومية لمقاربة موضوع لا تكون ناجعة، على التحقيق، إلا متى وسَّطَتِ المفاهيمَ في ذلك فأعادت بناء الموضوع الخارجي المباشر بحيث يصير موضوعاً للمعرفة.

ربّما بَدَا لبعضهم أن اللحظة الأولى في غير حاجة إلى الثانية ما دام مدارها على كائنات نظرية (المفاهيم)، أي ما دامت تجري في الذهن بعيداً من الواقع الخارجي.

وهذا ليس صحيحاً لأنّ لحظة بناء المفهوم (اللحظة الأولى) لا تتكون إلا بوصفها محصّلة تجريدٍ للظواهر التي يشتبك معها الوعي، في وجودها الخارجي الواقعي، في محاولة لفهمها وتعليلها ومعرفتها. قد تبدو المسافةُ بين الذهني والواقعي مسافة واسعة غير قابلة للرّتق، لأنّها تفصل بين فضاءين متباينين أشدَّ التباين، لكنّ ذلك ليس أكثر من انطباع سطحي من وجهة نظر نظرية المعرفة. على أنّ هذه مسألة إييستيمولوجيّة ليس هنا مكان التفصيل فيها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2u8x5rru

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"