انخفاض اليوان مقابل الدولار

21:40 مساء
قراءة 4 دقائق

د. محمد الصياد *

تخوض الولايات المتحدة الأمريكية صراعاً مفتوحاً مع الصين أساسه الاقتصاد. هي تسعى على نحو صريح ومندفع لتسجيل نقاط تفوق على الصين حيثما أمكنها ذلك. ومؤخراً، طار الأمريكيون فرحاً بانخفاض قيمة اليوان الصيني مقابل الدولار الأمريكي. إذ عدّه الإعلام الأمريكي السائد، نصراً أمريكياً على الصين في ميدان صراع العملات الدولي الذي احتدم خصوصاً بعد الحرب الروسية الأطلسية على الأراضي الأوكرانية، وتمظهَر خصوصاً في زيادة حصة استخدام العملات الوطنية (لاسيما اليوان الصيني والروبية الهندية والدرهم الإماراتي وغيرها من العملات الوطنية الأخرى) في المبادلات التجارية البينية (حتى الآن تتم هذه المبادلات السلعية على أساس ثنائي Bilateral). وقد يتطور ذلك إلى استخدامها على مستوى متعدد الأطراف Multilateral بعد توسيع تكتل بريكس في القمة الخامسة عشرة للتكتل التي استضافتها جنوب إفريقيا خلال الفترة من 22 إلى 24 آب/أغسطس 2023، والتي تم الإعلان فيها رسمياً عن انضمام 6 دول جديدة إلى التكتل ليصبح عدد البلدان الأعضاء فيه 11 دولة، من بينها 3 دول عربية مركزية، هي المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وجمهورية مصر العربية، إضافة إلى إيران وإثيوبيا والأرجنتين، ليصبح مسمى التكتل الرسمي الجديد «بريكس+»، والذي بات الآن يضطلع بنصف سكان العالم، ويضم 6 دول من أكبر 10 دول منتجة للنفط، و5 دول من أكبر 10 دول تحوز احتياطيات الغاز في العالم، وباتت حصته من إجمالي الناتج العالمي 37%.

معلومٌ أن ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل اليوان الصيني، أمر مفتعل من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الذي يستخدم أداة السياسة النقدية، سعر الفائدة في هذه الحالة (رفعها بمقدار 500 نقطة أساس)، لزيادة جاذبية الدولار. نتيجة هذا الإجراء تبدو مربحة للاقتصاد الأمريكي، إنما بصورة مؤقتة، لأن مفاعيله الداخلية تعمل على إلحاق الضرر بأسواق الإسكان والسندات الأمريكية. وبالفعل فقد سجلت معدلات الرهن العقاري في الولايات المتحدة ارتفاعاً كبيراً. فارتفعت الدفعات الشهرية على الرهن العقاري البالغة قيمته 600 ألف دولار إلى حوالي 4000 دولار، ارتفاعاً من 2600 دولار في بداية العام الماضي، أي قبل أن يبدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي في رفع سعر الفائدة القياسي. وهذا معناه تشكيل فقاعة في قطاع الإسكان من جديد «بفضل» سعر الفائدة. فضلاً عن التأثير السلبي لأسعار الفائدة المرتفعة في المستهلكين الأمريكيين المطالَبين بسداد ديون بطاقاتهم الائتمانية البالغة حوالي تريليون دولار. وهو ما يفسر ارتفاع معدل التأخر في السداد إلى أعلى مستوى له منذ ركود عام 1992. بالمقابل، فإن انخفاض قيمة اليوان يؤدي إلى زيادة الطلب على منتجات الصادرات الصينية، ما يحفز أكثر على نمو إجمالي الناتج المحلي الصيني. في حين أن ارتفاع قيمة الدولار مقابل اليوان وغيره من العملات العالمية الرئيسية، يؤدي بالضرورة إلى تفاقم خلل التوازن في الحساب الجاري في أمريكا وارتفاع مديونيتها الدولية.

الولايات المتحدة لم تحتفل فقط بارتفاع دولارها مقابل اليوان الصيني، وإنما بدأت تمني النفس بتكرار سيناريو اليابان مع الصين. فعندما شعرت أمريكا بأن اليابان باتت تشكل تهديداً اقتصادياً وتكنولوجياً جدياً لها، مارست على طوكيو ضغوطاً هائلة اضطرتها لتوقيع ما سُمي اتفاقية بلازا في عام 1985. هو اتفاق يرقى إلى الاستسلام الثاني لليابان أمام أمريكا بعد استسلامها لها في أعقاب قصف واشنطن لهيروشيما وناكازاكي بالقنابل الذرية في عام 1945. لكن في غضون أقل من ثلاثة عقود فقط، تمكنت اليابان من قلب صورتها رأساً على عقب، من كونها واحدة من أضعف وأفقر البلدان في العالم إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة. كان الاقتصاد الياباني ينمو بوتائر أسرع بكثير من نمو الاقتصاد الأمريكي، وكانت الصناعات اليابانية تهيمن على الصادرات العالمية. لذلك اتخذت واشنطن قرارها بوجوب فرملة هذه التجربة. فأُجبرت طوكيو في عام 1985، على توقيع اتفاق بلازا بهدف أساسي هو رفع سعر صرف الين الياباني بحيث لا تعود الصادرات اليابانية قادرة على المنافسة في الأسواق العالمية. الاتفاق الشهير وُقع في 22 سبتمبر 1985 في فندق بلازا في نيويورك، من قبل كل من أمريكا واليابان وألمانيا الغربية وفرنسا وبريطانيا، بهدف خفض قيمة الدولار الأمريكي مقابل عملات هذه الدول من خلال التدخل في أسواق العملات. وقد حققت أمريكا هدفها من الاتفاق، حيث انخفضت قيمة الدولار لصالح صادراتها، مقابل ارتفاع قيمة الين وانخفاض الصادرات اليابانية. وقد ترتب على هذا الاتفاق انتقال مصانع السيارات اليابانية إلى الولايات المتحدة، وتسليم تكنولوجيا أشباه الموصلات من شركة إن إي سي، وتوشيبا وغيرها، إلى شركة إنتل الأمريكية، ما أدى إلى خلق بنك اليابان (المركزي) فقاعات ضخمة في أسعار الأصول اليابانية أواخر ثمانينات القرن الماضي، أدت إلى خنق الاقتصاد الياباني، إذ تضاعفت أسعار سوق العقار والأوراق المالية أربع مرات في ست سنوات. تريد أمريكا أن تكرر ذات السيناريو مع الصين، فهل تنجح؟ هذا ما سنناقشه في المساحة القادمة نظراً للأهمية القصوى التي ينطوي عليها الصراع الدائر في العالم اليوم لإحلال التعددية الاقتصادية القطبية (تماشياً مع صعود أقطاب إقليمية/عالمية جديدة)، محل النظام الاقتصادي العالمي السائد.

* كاتب بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yc4pc929

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"