الوعيُ وعوائقُه

00:48 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

لعلّ التفكير في علاقات الأنا بالآخَر، في أيّ مجتمعٍ أو ثقافة، هو من نوع التفكير المركَّب الذي تتداخل فيه الأبعادُ وتترابط ولا تُدْرَك فيه الظّاهرة إلاّ في تشابُك أبعادها تلك. وهذا أمرٌ مفهوم في ضوء حقيقةِ هذه الثنائيّة نفسِها (الأنا، الآخَر) بما هي مركَّبةٌ ويحتاج وعيُها، بالتّالي، إلى تفكيرٍ تركيبيّ. وما من شكٍّ في أنّ مَن يطالع أوضاع هذه الثّنائيّة على نحو ما تتبدّى عليه في الوعي العربيّ، وفي الوعي الإنسانيّ إجمالاً، ستؤدي به تلك المطالعةُ إلى اشتقاق جملةٍ من الاستنتاجات النظريّة العامّة عن أوضاع العلاقة بين حدّيْ تلك الثّنائيّة. يعنينا من تلك الاستنتاجات ثلاثة منها رئيسَة:

أوّلها؛ أنّ العلاقة بين الأنا والآخَر- على نحو ما تتمظهر فيه في كلّ مجتمعٍ أو ثقافةٍ أو حضارةٍ أو حقبةٍ تاريخيّة - ليست، دائماً، علاقة بين حدّين منفصليْن تمام الانفصال، لا تقوم بينهما وشيجة ولا صِلة مّا من التّبادل الرّمزيّ - كما يمكن أن يُظَنّ بوحْيٍ من ملاحظة ما بينهما من تَقاطبٍ أو تَقابُل - وإنّما الغالبُ عليها أن تأخذ شكلَ علاقةٍ بين حدّيْن متفاعليْن أشكالاً من التّفاعل مختلفةً ومتراوحة بين تفاعُلٍ موعًى به وآخَر غير موعًى به. ولسنا نعني بالتّفاعل، هنا، ما يجري بينهما من تَبادُلِ الأثر في مساحةٍ خارجةٍ عن الحدّيْن أو تقع على تخومهما، بل نعني به التّفاعلَ الذي ينتقل به أثرُ كل حدٍّ إلى الثّاني في داخله. بيانُ ذلك، كما يعلِّمنا الدّرسُ الفلسفيّ المعاصر، أنّ داخلَ كلِّ أنا شيئاً مّا من آخَرِها أتاها من صلات التّفاعل، وهو ما يمتنع معه - بالتّالي - أيُّ حديثٍ عن حدّين مُغْلَقَيْن على بعضهما، دائماً، ومتمايزيْن التّمايُزَ المطلق على نحو ما يقع وعيُهما، في الغالب، انطلاقاً من منظوريْن فلسفيَّيْن: ديكارتيّ وكانتيّ كان نيتشه قد انتقدهما بشدّة. إنّ استبطان كلِّ حدٍّ لبعضِ ما في الحدّ الثّاني معطًى موضوعيٌّ قائم على الرّغم ممّا لدى كلِّ أنا من ميْلٍ إلى نفْي آخَرِها ونبْذه.

وثانيها؛ أنّ إدراكاً صحيحاً لعلاقات التَّمَفْصُل بين حدّيْ هذه الثّنائيّة وقْفٌ على ما يمكن أن نُحرِزَه من نتائج معرفيّة من عمليّة نقد حدّيْها ككُلّيّتين مغلقتيْن (ونقد وعيهما بما هُما كلّيتان مغلقتان). إنّ أيّ تفكيرٍ صحيح في عمليّة التّمفصُل تلك يَلِجُ إليها ( التّفكير) من هذا المُدخل النّقديّ بالذّات؛ أعني من وعْيِ ما يُضمِرُهُ كلّ حدٍّ من كثافةٍ في المعنى والمضمون، ومن تعدُّدٍ فيه قد يبلُغ به، أحياناً، حدود المفارقات. إلى ذلك نخال أنّ النّقد هذا ضروريّ من أجْل التّحرُّر من النّظرة المُنَمَّطة والتّنميطيّة إلى ظواهر الثّقافة والفكر والاجتماع الإنسانيّ.

أمّا ثالثها فعلى علاقة بما ينطوي عليه التّفكير من داخل ثنائيّة الأنا/ الآخَر من انشدادٍ إلى النّظام الأيديولوجيّ: مقدّمات وأدوات وأهداف؛ الانشداد الذي لا مهْرب للفكر منه في مثل هذه الحال من التّمثُّلات الصّراعيّة - أو التّجاذبيّة - بين الثّقافات والمجتمعات والهويّات، وحيث كلّ شيءٍ في حكم المشروع في التّفكير؛ بما في ذلك التّضخيم والزّعم والمخادعة والتّضليل والطّمس والتّظهير... إلخ. لذلك فإنّ حاجتنا تكون كبيرة - في مثل هذه الحال- إلى الانتباه اليقِظ إلى ما في جدليّة الأنا/الآخَر من عوار؛ وهو ممّا يتولّد من كونها جدليّة عقيمةً، غير منتجة، وكابحة للتّفكير الموضوعيّ، بل لعلّها تنتصب من حيث هي عائقٌ من العوائق المعرفيّة الكبرى التي تُحْدِث الحصْر في مجرى النّظر الفكريّ أو هي، أقلاًّ، تنزاح بالتّفكير عن جادّة الموضوعيّة والنّزاهة المعرفيّة. ما من مهربٍ، إذن، من السّعي العلميّ الدّؤوب نحو التّحرُّر الإيپيستيمولوجيّ من هذه الثّنائيّة العقيمة الكابحة، بل لسنا نتزيّد حين نقول إنّ هذه اللاّبديّة ترتفع إلى مقام الفريضة العلميّة.

وهكذا، نحن نفكّر أكثر ما نفكّر متوسّلين مفهوميْ الأنا والآخَر من غير أن نعيَ ذلك في الأعمّ الأغلب من الأحوال. قد لا نستحضر المفهومين، بالضّرورة، أثناء عمليّة التّفكير في الظّواهر التي تستدعي توسُّلَهما، ولكنّنا نستبطنُهما ونبني بهما التّمثّلات المختلفة عن أنفسنا وعن الآخرين. والمشكلة إنّما تكمن في أنّنا قلّما نضع تلك التّمثّلات ومفاهيمَها التّحتيّة الحاكمة - ومنها الأنا والآخَر- موضِعَ فَحْصٍ نقديّ عنها، فتكون النّتيجة أنّنا نُمْعِن في تعظيم رؤى أيديولوجيّة عن العالم والظّواهر والأفكار بدلاً من مراجعتها باستمرار.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/456xw9ff

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"