من زمن الإنسان إلى زمن الآلة

00:15 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

حين يُقال إنّ صورةَ القيم في المجتمعات المعاصرة ترسمُها عوامل الثّبات والتّحوُّل، التي هي محصّلة مفاعيل المواريث والتّأثيرات الوافدة من المحيط الخارجيّ؛ وحين يقال إنّ المتغيِّر في منظومة القيم - الواقعَ بتأثير عوامل التّحوّل - لا يلبث أن يزاحم الثّابت منها ويفرض نفسَه في المنظومة، فإنّ عوامل التّحوُّل لا تتجلّى آثارُها في النّطاقين الاجتماعيّ والثّقافيّ (تماماً مثلما لا يكون مصدرُها من هذين المنبعيْن حصراً)، ولا حتّى في جوانبها الاقتصاديّة التي يعبّر عنها تيسيرُ نجاحات التّنميّة لشروط التّغيّر الاجتماعيّ، فقط، بل تقع المُخْتَرَعات التّكنولوجيّة (أو العوامل العلميّة التِّقانيّة) في جملة عوامل التّحوّل تلك أيضاً. بل لا نضيف جديداً حين نقول إنّ هذه العوامل التِّقانيّة هي أكثر تلك العوامل، جميعاً، تسريعاً لوتائر التّحوّل في منظومات القيم في المجتمعات الحديثة والمعاصرة.

يمكن للمرء أن يُدْرِك ذلك، بسهولة، متى ما شَدَّ انتباهَه إلى ما أفضت إليه مخترعات وتقنيّات من تغيّراتٍ في الأنساق الاجتماعيّة والثّقافيّة والسّلوكيّة. حين دخلَت الكهرباء، مثلاً، ميدان الاستخدامات العامّة، الاجتماعيّة والصّناعيّة والخِدْميّة والمنزليّة، تغيّرت نظرة النّاس إلى الأشياء والظّواهر والعلاقات وتغيّرت معها معاييرُهم. أصبح في وُسْعهم أن يختزلوا - بتوسّلها- المكانَ والزّمانَ (المسافات) والجهْد المبذول في العمل والإنتاج، وأن يزيحوا عن عقولهم أكواماً من الأوهام التي توارثوها حول الغامض والسّحريِّ من الظّواهر. أخرجتهم الكهرباء من الظّلمات إلى النّور بالمعنييْن الماديّ والرّمزيّ، وفتحت وعيهم على آفاقٍ كانت مُقفَلة، مثلما استجرّت قيماً جديدة مطابِقة وإنْ كانت متراوحة بين الإيجاب والسّلب.

مع كلّ تقدّمٍ يحْرزه الإنسان في ميدان الصّنائع العلميّة والآليّة- التِّقانيّة، كانت شروطُ حياته تتغيّر، ومعها تشهد أنساق القيم لديْه على وجوهٍ من التّحوّل فيها. ومثلما وَسِعَ كلُّ إنتاجٍ آليّ جديد أن يُضاعف من توليدِ ما كان يسمح به الإمكانُ الطّبيعيّ من نتائج، كذلك كان يَسَع المجتمعات أن تُصوِّب المعطوبَ في اجتماعها الإنسانيّ (الأميّة، الفقر، الحاجة...)، والمُصابَ في نُظمها العضويّة الحيويّة (الصّحّة البدنيّة والنّفسيّة)، من طريق توسُّل نتائج العلوم ومكتسبات الإنتاج التّقنيّ، والتّوسُّعِ في استخداماتها الاجتماعيّة والإنسانيّة.

ما أكثر الملكات والطّاقات الطّبيعيّة في الإنسان التي تعطّلت فيه بفعل دخول الآلة والتّقنيّة في حياته، وقيامها مقامَه في التّفكير والعمل؛ وما أكثر ما اختفى من الظّواهر الإنسانيّة - ظواهر الفعاليّة الإنسانيّة - نتيجة ذلك الدّخول الذي تعطّلت معه تلك الفعاليّة. تحوَّل الإنسان من منتجٍ إلى مستهلكٍ لمنتوجٍ لم يَعُد ينتِجه، بل تقوم الآلة مَقامَه في ذلك؛ وتحوَّل - تبعاً لذلك - مِن كائنٍ فاعلٍ في تاريخٍ يصنعه هو - بإرادته وبحسن درايته قوانينَ التّاريخ - إلى منفعلٍ يستقبل الآثارَ من خارج فعاليّته

انقلابٌ مَهُولٌ قد يبدو إيجابيّاً لبعضٍ مسكونٍ بنزْعاتٍ علمويّة وتطوّرانيّة وداروينيّة- تقنويّة، لكنّه - قطعاً- الانقلابُ الذي يضع في ميزان السّؤال والتّأمّل الماهيةَ الإنسانيّة المُصابة بالشّحوب والذّاهبة، حثيثاً، نحو الاضمحلال والأفول

ما من شكٍّ في أنّ وتيرة التّحوّل في القيم الاجتماعيّة والأخلاقيّة والثّقافيّة ستتعاظم في امتداد هذه الانتقالة الدراماتيكيّة من الزّمن الإنسانيّ إلى الزّمن الآليّ: الانتقالة التي تحرّكت، بقدْرٍ من البُطء التّراكميّ، منذ لحظة البخار والكهرباء إلى ثمانينيّات القرن العشرين لتشهد على اندفاعتها الكبرى مع الثّورة التّكنولوجيّة الرّابعة المتواصلة منذ الثّورة الرّقميّة والبيولوجيّة حتّى الذّكاء الاصطناعيّ. ولمّا كانتِ القيمُ الإنسانيّة في الماضي القريب محصّلة وجودٍ إنسانيّ اقترن ميلادُه - كما تطوُّرُهُ - بالعمل، فإنّ الانتقال بهذا العمل من مرحلة الإنسان الطّبيعيّ إلى مرحلة الإنسان الآليّ (الرّوبوت) سيولِّد قيماً جديدة مطابِقة: أي ذاهبة في التَّخوِّي والانفراغ من أيّ مضمون إنسانيّ!

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5n6c7jy3

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"