تعديلات في معنى السيادة

00:11 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

إذا كان القرن التّاسع عشر قرنَ الوحْدات القوميّة في أوروبا، فإنّ القرن العشرين شهِد على صُوَرٍ مختلفة من خروج الدّولة عن حدودها القوميّة. لا يتعلّق الأمر في هذا بحركة التّوسُّع التي أطلقت موجات استعمارِ عالمِ «ما وراء البحار»، فقط (هذه كانت قد انطلقت قبل هذا القرن بكثير)؛ بل بديناميّة جديدة بعثَ عليها التّحوُّل الكبير الذي حصل على صعيد توازنات القوى في أوروبا، وموجاتِ الحروب التي اندلعت، والحاجةِ إلى إنشاء أطر موسَّعة للتّعاون تُوفِّر ضماناتٍ ضدّ الصّدمات بين الدّول والمنازعات على المصالح. وإلى ذلك أطلق نجاح الثّورة الرّوسيّة البلشفيّة وميلاد الاتّحاد السّوفييتيّ تجربة جديدة في بناء دول اتّحاديّة كبرى على منواله - من طراز الاتّحاد اليوغوسلافيّ - تستعيد تجربة تكوين الولايات المتّحدة، ولكن مع مركزيّةٍ أكبر، والأهمّ، أنّها توفِّر للبلدان المؤتلفة فيها رصيداً من القوّة أكبر تستطيع به أن تردّ عنها غائلة الأخطار والتّهديدات الجديدة التي حملَتْها حقبة النّزاع على المصالح ومناطق النّفوذ بين القوى الكبرى في ذلك القرن.

من البيّن أنّ هذه الدّيناميّة الاتّحاديّة الجديدة فَرضت - بقوّة أحكام الأمر الواقع - حدّاً متزايداً من سيادات الدّول القوميّة على نفسها يتناسب وطبيعة الاتّحادات القوميّة (فيما هو لا يناسب نموذج الدّولة الوطنيّة المبنيّ على السّيادة التّامّة). مع ذلك ما نُظِر إلى هذه الدّيناميّة نظرة سلبيّة لمجرّد أنّها حدَّتْ من السّيادات؛ ذلك أنّها اقترحت على الدّول المنخرطة فيها سياداتٍ بديلاً لسيادة الدّولة القوميّة هي سيادة الدّولة الاتّحاديّة متعدّدة القوميّات. على أنّ هذه السّيادة العليا الجماعيّة، داخل الإطار الدّولتيّ الاتّحاديّ، غيّرت معنى السّيادة في أصوله الفكريّة والسّياسيّة الحديثة، فبات التّنازلُ عن السّيادة الوطنيّة أو عن قسمٍ منها جزءاً من ممارسة السّيادة وليس خضوعاً لإرادة دولةٍ أخرى، مادام التّنازل ذاك يجري على نحوٍ طوعيٍّ حرّ ولغايةٍ هي تعظيمُ المنافع.

إلى هذه الدّيناميّة الاتّحاديّة لتكوين دولةٍ كبرى من دولٍ عدّة، شهِد القرن العشرون على محاولتين لبناء نظامٍ سياسيّ دوليّ جامع يستوعب دول العالم، ويفرض منظومةً من التّشريعات والقوانين موحّدةً تعود المنظوماتُ القانونيّةُ القوميّة للدّول، بقوّة أحكامِها، إلى نطاقاتها الكيانيّة الخاصّة والمحدودة. أولى المحاولتين أخفقت في أن تكون ذلك الإطارَ الدّوليّ الجامع التي ابْتَغَتْ أن تَكُونَه عند تأسيسها في صيف عام 1919 «عصبة الأمم» في مؤتمر فرساي للسّلام، لكنّ ميثاقها كان أوّل وثيقة دوليّة تُقيِّد سيادات الدّول - بدعوى ضمان السِّلم العالميّة - على الرّغم من تشديد مادّته العاشرة على احترام وحدة أراضي الدّول الأعضاء واستقلالها السّياسيّ. ولقد كان على العُصْبة أن تنفرط بعد نهاية الحرب العالميّة الثّانية؛ حيث ما استطاعت أن تحميَ السّلام العالميّ. أمّا المحاولة الثّانيّة (منظّمة الأمم المتّحدة) فمستمرّةُ الوجودِ والفعل منذ العام 1945 وهي أشمل من سابقتها في عضويّة دول العالم فيها. ومع أنّ ميثاقها يلْحظ - هو أيضاً - استقلاليّة الدّول الأعضاء وتَمَتعَها بسياداتها الوطنيّة، إلاّ أنّ مفعول القانون الدّوليّ يتجاوز، فعليّاً، كلّ سيادةٍ وطنيّة ولا يقيم لها اعتباراً: ما خلا سيادات الدّول الكبرى الحاكمة للنّظام الدّوليّ. على أنّه، جنباً إلى جنب مع هذا النّظام الدّوليّ واتّحادات الدّول، هيّأت نتائجُ الحرب العالميّة الثّانيّة ظروف استقطابٍ دوليّ جديد (لا يشبه في شيء الاستقطاب القديم بين القوّتين البريطانيّة والفرنسيّة)، هو الاستقطاب بين المعسكرين «الاشتراكيّ» والرّأسماليّ الغربيّ. ولقد قضى هذا الاستقطاب بأن يَحُدّ من سيادات الدّول المنخرطة فيه، والمنتميّة إلى هذا الحِلف الدّوليّ أو ذاك. وسواءٌ تعلّق الأمر في ذلك بالأحلاف العسكريّة «منظّمة حلف شمال الأطلسيّ»، «حلف وارسو» أو بالتّحالفات السّياسيّة، أو بالاتّحادات الاقتصاديّة (الجماعة الأوروبيّة)، كان على كلّ دولةٍ عضو في أحد المعسكرين أن تخضع لقرار الدّولة العظمى التي تقود الحلف (الولايات المتّحدة الأمريكيّة، الاتّحاد السّوفييتيّ) وأن تَنْحَدّ، بالتّالي، سيادتُها الوطنيّة واستقلاليّةُ قرارها. في جميع هذه الحالات الثّلاث الكيانيّة المشار إليها أعلاه (الدّول الاتّحاديّة الكبرى، «المجتمع الدّوليّ»، الأحلاف والمعسكرات) كان شيءٌ كثيرٌ يتغيّر في مفهوم السّيادة الوطنيّة لتتغيّر معه، بالنّتيجة، مكانتُها الاعتباريّة في عالم السّياسة الجديد الذي بدأ يتشكّل.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/53fxwefd

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"