بصمة «الثعلب العجوز»

00:01 صباحا
قراءة دقيقتين

عن عمر ناهز اﻟ 100 عام، رحل هنري كيسنجر بهدوء، في منزله بولاية كونيتيكت الأمريكية، بعد أن شغل العالم لنحو نصف قرن من الزمن، بدبلوماسيته المكوكية، وظلّ يلعب دوراً تنظيرياً لا يمكن إهماله، حتى آخر يوم في حياته، لما تتضمّن آراؤه ووجهات نظره من كمية المعلومات، وحجم التقديرات، وباقة الاستنتاجات، التي ظلّ الرؤساء الأمريكان والأجانب والديبلوماسيون، بشكل عام، يتعاملون معها باهتمام كبير، حيث يُعدّ كيسنجر من أعرق الديبلوماسيين في العالم، وأكثرهم دراية بخفايا الدبلوماسية، الأمريكية والدولية.

ويمكن إدراج أربعة مجالات دولية مهمة لمع فيها كيسنجر على نحو باهر: أولها - إخراج الولايات المتحدة من ورطة حربها في فيتنام بتوقيع اتفاقية باريس عام 1975، والقاضية بالانسحاب الأمريكي بعد هزيمتها. وثانيها - الانفتاح على الصين وتطبيع العلاقات معها، مستغلاً الصراع الأيديولوجي الصيني - السوفييتي، فقد عمل على كسر الحاجز النفسي بزيارته السريّة «الشهيرة» إلى الصين عام 1971، ممهّداً لزيارة الرئيس نيكسون عام 1972. وثالثها - الانفراج الدولي الذي سعى إليه، وأدّى إلى تخفيف حدّة التوتّر التي شهدتها سنوات الحرب الباردة في العقود الثلاثة الأولى، بتوقيع معاهدة الحدّ من الأسلحة الاستراتيجية مع الاتحاد السوفييتي (SALT 1 - 1972).

ورابعها - التمكن من فتح مسار التسوية، ولاسيّما بين مصر و«إسرائيل»، بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول التحريرية عام 1973، عبر سياسة الخطوة - خطوة، وصولاً إلى توقيع اتفاقية الصلح المنفرد وكامب ديفيد (1978 - 1979). ومع أن كيسنجر حاز جائزة نوبل للسلام عام 1973 مناصفة مع نظيره الفيتنامي الشمالي، لو دوك ثو، إلّا أنه اتّهم بارتكاب جرائم حرب، بسبب مواقفه الأولى في توسيع الحرب وإطالة أمدها في جنوب شرقي آسيا (1969 - 1975)، حيث امتدّت إلى كمبوديا، التي عرفت بحيادها آنذاك، وتسهيل عمليات الإبادة فيها، إضافة إلى دعم الانقلابات العسكرية، وفِرق الموت في أمريكا اللاتينية.

وعلى الرغم من أن الرجل ظلّ بعيداً عن المواقع الرسمية لنحو 46 عاماً، إلّا أن حضوره كان متواصلًا، وآراؤه مثيرة للجدل. أذكر هنا ما يتعلّق بالعلاقات الأمريكية - الصينية، وبالمسألة الأوكرانية، ففي الأولى كان رأيه أن على أمريكا والصين تعلّم العيش معاً،، وإلّا فإن العالم سيواجه صداماً كونياً. أما بشأن اجتياح روسيا للأراضي الأوكرانية، فقد كان رأي كيسنجر في البداية معارضة انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، ومراعاة حساسية روسيا، لأنه كان يخشى، بالفعل، أن يؤدي ذلك إلى العملية التي نشهدها، كما قال، لكنه تراجع عن موقفه هذا، معتبراً أن الأحداث أظهرت أنه لم يعد هناك مبرر لبقاء الأخيرة خارج حلف الناتو.

يُعتبر كيسنجر من دعاة «الواقعية السياسية» والعلاقات المباشرة والحوار، وقد استقى بعض أفكاره وآرائه من دراسة التاريخ على مدى قرنين، ولاسيّما في القرن التاسع عشر، حيث كتب أطروحته عن نظام ما بعد معاهدة فيينا 1815، ودور مترنيخ، وحاول أن يجمع بين التاريخ والفلسفة، ما أوصى به الديبلوماسيين الشباب.

وإذا كان «الثعلب العجوز» اهتمّ بالإعلام، وكان منفتحاً، فإن خليفته بريجينسكي الذي جمع صفتي «الصقر والحمامة»، كان يعمل بصمت، بوصفه شخصية منغلقة، لا تحب الظهور الإعلامي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/msjen2sj

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"