السياسة الصناعية.. فيتامين «سي» أم «بنسلين»؟

23:17 مساء
قراءة 3 دقائق

ريكاردو هوسمان*

قد لا يكون فيتامين «سي» فعالاً بشكل خاص للوقاية من نزلات البرد أو علاج الأورام، لكن نقصه الشديد في الجسم ربما يؤدي إلى مرض الإسقربوط. ونتيجة لذلك، فإن الاستهلاك اليومي له ضروري من أجل نظام غذائي صحي. في المقابل، يعالج البنسلين الالتهابات البكتيرية، على الرغم من أن الإفراط في استخدامه يمكن أن يخلق جراثيم مقاومة للأدوية، ولذلك ينبغي أن يُؤخذ فقط عند الضرورة القصوى.

الآن، عندما يتعلق الأمر ببناء اقتصاد فعال، فهل السياسة الصناعية أشبه بفيتامين «سي» أم «البنسلين»؟ وهل يمكن أن يؤدي النقص إلى مشاكل، مما يعني أن الكميات المنتظمة والمعتدلة تشكل أهمية بالغة لاقتصاد يعمل بشكل جيد؟ أم يجب استخدامه باعتدال لمكافحة نوع معين من العدوى؟

وفي هذا السياق، تمثل العدوى إخفاقات السوق، والتي يميل العديد من الاقتصاديين إلى النظر إليها باعتبارها الاستثناء وليس القاعدة. فيما يجادل آخرون بأن ترك الجسم يعالج نفسه بنفسه أفضل من التدخل. وكما تقول النكتة القديمة، «نزلات البرد غير المعالجة تستمر لأسبوع، في حين تستمر نزلات البرد المعالجة سبعة أيام». وفي عبارته الشهيرة، قال غاري بيكر، الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1992، في سخرية شهيرة: «إن أفضل سياسة صناعية هي عدم وجود سياسة صناعية على الإطلاق».

ولكن في المقابل هناك من يرى أن إخفاقات السوق باتت أكثر انتشاراً وعمومية. فالشركات لم يعد لديها الحافز الكبير لتدريب موظفيها والاستثمار في البحث والتطوير، كي تأتي شركات أخرى تجتذب هؤلاء الموظفين وتسرق أفكارها المكلفة. ومن ناحية أخرى، قد يكون من الصعب تنظيم المدخلات، بما في ذلك الكهرباء، والمياه، والتنقل، والخدمات اللوجستية، والأمن، اللازمة لجعل موقع معين مناسباً للتصنيع. ونتيجة لذلك، أصبح من الممارسات المعتادة أن تقوم الحكومة بتقاسم تكاليف التدريب، ودعم البحث والتطوير من خلال قانون الضرائب، وتخطيط المناطق الصناعية. وكما هو الحال مع فيتامين «سي»، فإن هذه التدخلات السياسية مفيدة للعديد من الصناعات وينبغي أن تكون متكررة.

ومع ذلك يبقى الواقع أكثر تعقيداً، فإخفاقات السوق متأصلة في الجسم الاقتصادي، لكنها غير متجانسة إلى حد كبير؛ وعلى هذا النحو، نادراً ما يمكن علاجها بأدوات عامة. وتعمل هذه الإخفاقات، بالإضافة إلى توفير المنافع العامة، على خلق تحديات للمعلومات والحوافز وتعبئة الموارد، ويتعين على السياسة الصناعية أن تتغلب عليها في نهاية المطاف. فعلى سبيل المثال، في غياب الضوابط الصحية، وشهادات السلامة، والخدمات اللوجستية لسلسلة التبريد، فإن التجارة الدولية في المنتجات الطازجة لن تكون موجودة، تماماً كما يفسر الافتقار إلى البنية الأساسية سبب عدم وجود السكك الحديدية العالية السرعة في الولايات المتحدة.

وعلى نحو مماثل، كثيراً ما تواجه الصناعات الناشئة مشاكل صعبة للغاية. وأحدث مثال على ذلك، السيارات الكهربائية، وكيف أن الناس لن يشتروها في حال لم تكن البنية التحتية للشحن مهيأة وكافية. لذلك، تجد المستثمرين يترددون بإنفاق أموالهم على محطات الشحن دون ضمانات بزيادة مبيعات السيارات الكهربائية. وتوفير الضمانات على العوائد المالية هذا، من شأنه أن يوسع شبكات الشحن ويعزز مبيعات السيارات الكهربائية.

وتجدر الإشارة إلى أن مثل هذه التدخلات في السوق يجب أن تتنوع وتُعطى على حسب الحالة، تماماً كما يتم استخدام مضادات حيوية مختلفة لعلاج أنواع معينة من العدوى. وهذا يثير التساؤل حول من يقوم بتشخيص المشكلة ويصف مسار العمل، وما إذا كانت مصادر معلوماته كافية.

ونظراً لذلك، فإن التشبيه الأفضل للسياسة الصناعية ربما يكون الجهاز المناعي في الجسم، الذي يحميه من الغزاة المختلفين باستخدام شبكة كشف شديدة اللامركزية ترصد التهديدات وتقرر متى يجب التحرك. ومن خلال الاستفادة من ذاكرة العدوى السابقة، يقوم الجهاز المناعي بتطوير أجسام مضادة لمكافحة المشكلة الراهنة. بالتالي، فإن كل مرض جديد يتعرض له جسم الإنسان يعزز قدرة النظام الدفاعي على الصمود.

ومثل الجهاز المناعي تماماً، يمكن أن تفشل السياسة الصناعية بإحدى طريقتين، إما أن تكون استجابتها ضعيفة للغاية، أو قد تهاجم الخلايا التي من المفترض أن تحميها، وهو ما يُعرف باضطراب المناعة الذاتي. كما أنه من الممكن أن يفاقم سوء استخدام السياسات، والفساد، وعدم تطبيق القانون، إخفاقات السوق من قبل الحكومات المنوطة، بدلاً من حلها.

ومثل هذا القياس مناسب لأن السياسة الصناعية تنطوي على تعاون وثيق بين شبكة واسعة من الكيانات العامة، بما في ذلك الوزارات، ومجالس التنمية الاقتصادية، ووكالات تشجيع الاستثمار، والمناطق الاقتصادية الخاصة، فضلاً عن الجهات الفاعلة في القطاع الخاص.

* أستاذ التنمية الاقتصادية في كلية كنيدي بجامعة هارفارد، ووزير التخطيط الأسبق في فنزويلا، وكبير الاقتصاديين الأسبق في بنك التنمية للبلدان الأمريكية (بروجيكت سينديكيت)

الصورة
1
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bee3jha6

عن الكاتب

وزير التخطيط الفنزويلي السابق، وأستاذ التنمية الاقتصادية في كلية جون إف كينيدي للإدارة الحكومية بجامعة هارفارد

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"