اللغة كأعظم نظام أوركسترالي

00:04 صباحا
قراءة دقيقتين

هل يليق بقلم أن يطوي الحديث عن «اللغة كتكنولوجيا متطوّرة»، في عمود يقال عنه: «متى سلّم حتى ودّع»؟ لا يليق، وما ينبغي له. وصف اللغة بأنها تقانة، ليس فيه غضاضة، سوى أنه ليس الكلمة أو المصطلح الموسوعي الذي يفي بمنظومة الأغراض. هل يدرك واضعو المناهج أنهم يُسقطون أهمّ المحاور التي يقوم عليها بنيان الإحساس بجمال اللغة؟ كأنما يُلقون بالطلاب خارج الجاذبية المركزية التربوية التعليمية، ويجعلون منهم مجرّد علب محشوّة بحفنة من القواعد التي لا علاقة لها بجمال اللغة.
تخيّل أستاذ الموسيقى وهو يحلل جماليات سيمفونية: أيها الأعزاء، إن فيها ألفي رافع وتسعمئة خافض، وسبعة تصويرات مقامية. سيقول قائل: وهل يُعقل حدوث مثل هذا التحليل المتخلف؟ صبراً، تصوّر أيضاً أستاذ الهندسة المعمارية: هذه التحفة من الفن الإسلامي المطعّم بلمسات من الفن القوطي، استخدم فيها كذا ألف طن من الرمل، ومقدار كذا من الأسمنت، وكذا من الحديد. مهلاً، إذ يحدث ذلك وأنكى. ففي ميراثنا نصوص كثيرة، من بينها ديوان أبي الطيب، أعربوا كل كلمة فيها. نصوص أخرى أحصوا كل حرف فيها من الألف إلى الياء. ما ترى فائدة أن يجيد أحد إعراب ديوان شاعر، وهو لا يميّز جيّده من رديئه، وإبداعه من سقطاته؟
تقانة اللغة أكبر من التكنولوجيا. لأن اللغة كنظام صوتي منبثق من القوانين الكونية، متناغم مع النظام الكوني. اللغة منظومة علوم صوتية، تكنولوجيا صوتية، هي المصنع وهي الصناعة، وهي الآلات التي ظلت تتطور عبر ثلاثمئة ألف سنة، منذ ظهور الإنسان العاقل (هوموسابيانس). هكذا كل اللغات. هذا لا يعني أن اللغات متساوية. اللغات تشبه الآلات الموسيقية، التي تتفاوت في المساحة وجماليات القابلية للتقنيات العالية. إضافة إلى المواهب السماوية: عظمة العبقريات الإبداعية لدى أهليها. بالمناسبة: من السذاجات التي تتردد كثيراً، الحديث عن جمال اللغة العربية أو غيرها، فالمقصود هو النصوص التي أبدعها الشعراء والأدباء. روائع ما يبدعه النوابغ هي التي تصنع الفارق الجمالي بين اللغات. هنا يطير بك جمال اللغة إلى فضاءات أبعد من اللغة نفسها.
ما هو أبعد من النحو والصرف، هو أن اللغة هي المصنع، أي جسم الإنسان: البطن، القفص الصدري، الرئتان، الحنجرة وأوتارها الصوتية (كلمة حبال بذيئة)، الحلق، اللسان، اللهاة، الشدقان، الفكان، الأسنان، الشفتان، الأنف، تجويفات الجمجمة.
لزوم ما يلزم: النتيجة الأوركسترالية: أليست اللغة فرقة موسيقية عظيمة؟ أوركسترا من ستة عشر عازفاً، يحكمها نظام فيزيائي بلا نظير.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/226aaw9w

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"