مفارقات الفيضانات الثقافية

00:08 صباحا
قراءة دقيقتين

هل تذكر طُرفة جبنة الغرويير الفرنسية الشهيرة بفراغاتها؟ يقولون: «كلّما ازدادت الجبنة، ازدادت الفراغات، وكلما ازدادت الفراغات، نقصت الجبنة». الشبكة العنكبوتية أتت بما هو أسوأ لدى بعض الأمم. للأسف، هذه الظاهرة غير خافية في العالم العربي. نورد شذرات مذرات للتمثيل.

عندما تسنّى لمتصفحي الشبكة العرب الحصول على عشرات آلاف الكتب في ميادين شتى من العلوم والمعارف، مجّاناً، وصار عدد السكان أضعافَ أضعافِ ما كان عليه في بداية القرن العشرين، قلّ عدد القراء، حتى كثر التندّر بندرة القراءة لدى العرب، حقّاً أو شططاً باطلاً. ما هي أهمّ الدراسات العلمية، التي سلّطت الأضواء على هذه القضيّة الوجودية وأسبابها وطرائق علاجها؟ لقائل أن يقول: «إذا عُرف السبب، بطُل العجب»، فماذا تنتظر من قوم تركوا نبات الأمّية الشيطاني، ينشر أوبئته في أمّة «اقرأ»؟

الأعراض الجانبية لهذه الآفة، لا تخلو من ملهاة مأساوية، فعندما صارت الشبكة أكبر معرض كتب في تاريخ البشرية، مجّاناً، وأصبح البحر أمامك، فاغترف ما طاب لك، هبط مستوى معرفة العرب بلغتهم، إلى جانب ظاهرة أخرى يمكن تحديد بداية ظهورها بأوائل النصف الأخير من القرن الماضي، ووصفها بنهاية عصر الأساليب. الرافعي غير طه حسين، عبدالقادر المازني غير أحمد حسن الزيات، أحمد أمين غير العقاد، المنفلوطي غير محمود المسعدي. في الشعر الفوارق أجلى: سعيد عقل غير محمد الفيتوري، غير الجواهري، غير نزار، ولا وألف ولا. وداعاً للأساليب المتميزة.

من عجائب المفارقات أيضاً، أنه قبل الشبكة، كان امتلاك مكتبة موسيقية يكلّف مبالغ طائلة. اليوم كل موسيقى العالم لك مجّاناً، على هاتفك الجوّال. ما تستطيع أن تمتاز به على قلّة أو كثرة، هو أن يكون لديك نظام صوتي باهظ الثمن. لكن ذلك يحتاج إلى إلمام بالموسيقى الجادة، لأن نظاماً كهذا يبلغ أحياناً مئات آلاف الدولارات، لا يجوز أن تبث فيه الهبوط المحسوب على الموسيقى. المفارقة هي أنه عندما أمسى في إمكان أيّ كان الاستمتاع بكل الإبداع الموسيقي في العالم، وهو محيطات تعج بمليارات الأعمال، ترى أن الموسيقى العربية مثلاً، كأنما أدركها الخريف، فاصفرّت أوراقها وتناثرت، ونضبت مياه نهرها فانقطع عن الخرير.

لزوم ما يلزم: النتيجة الفكرية: لن يتردّد القلم في توجيه السؤال إلى المناهج: ألستِ أنتِ المسؤولة عن تربية الذوق والإحساس بالجمال، في كل ما هو ثقافي، لغةً وصوتاً وصورة؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/4f95y2n2

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"