عادي

الأدب قبل الطلب

23:06 مساء
قراءة 3 دقائق
1
سالم بن ارحمه الشويهي

د. سالم بن ارحمه

العلم ليس حشو معلومات وحفظ مرويات؛ وإنما هو في الحقيقة تعاهد النفس بالإصلاح في العلم والعمل، والدين والخُلُق، وقد أكد سلفنا الصالح على ضرورة تعلُّم الأدب قبل الطلب والتزكية قبل التعليم؛ بحيث يُرى أثر ذلك في سلوك صاحبه ومواقفه وعلاقاته.

وأقوالهم في هذا المعنى كثيرة جداً. قال عبد الله بن المبارك: «كانوا يطلبون الأدب قبل العلم» و«نحن إلى قليل من الأدب، أحوج منا إلى كثير من العلم». والسر في ذلك: أن الأدب يأتي بالعلم، ويحمل صاحبه على التواضع والفهم؛ لذا قال عمر رضي الله عنه: «تَأَدَّبُوا، ثُمَّ تَعَلَّمُوا».

وفي قول الله تعالى: «قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا» قال ابن عباس وغيره:«أدبوهم، وعلموهم».

وقال الحَسَن البَصْرِي: «كان الرجل يطلب العلم، فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشُّعه، وهديه، ولسانه، وبصره، ويده، فالأدب مقدم على العلم وطلبه، إذ هو مفتاحه وسببه».

ولقد طبق سلفنا الصالح، رضوان الله عليهم، ذلك عملياً، فلقد حرصوا على أن يتعلم أولادهم الأدب قبل العلم، قال الأمام مالك بن أنس: «كانت أمي تجهز عمامتي وأنا صغير قبل ذهابي لحلق العلم، فتقول:يا مالك خذ من شيخك الأدب قبل العلم».

وأحسن الرصافي حين قال: هي الأخلاق تنبت كالنبات إذا ُسقِيَت بماء المكرُمات تقوم إذا تعهّدها المُرَبّي على ساق الفضيلة مثمرات وتسمو للمكارم باتِّساق كما اتّسقت أنابيب القناة وتُنعش من صميم المجد روحاً بأزهار لها ُمتَضوِّعات ولم أر للخلائق من مَحَلّ يهذّبها كحِضن الأمهات.

قال بعضهم لابنه:«يا بني، لأن تتعلم باباً من الأدب، أحب إلي من أن تتعلم سبعين بابًا من العلم». وكان يجتمع في مجلس أحمد بن حنبل زهاء خمسة آلاف ويزيدون، خمسمئة يكتبون، والباقي يتعلمون من حسن الأدب وحسن السمت.

قال أبو سليمان: «إنما الأخ الذي يعظك برؤيته قبل أن يعظك بكلامه؛ لقد كنت أنظر إلى الأخ من إخواني بالعراق فأعمل على رؤيته شهراً».

وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول:«من لم يعظك لحظه، لم يعظك لفظه».

وقال الإمام عبد القادر الكيلاني، رحمه الله: «بنيت أمري على الصدق وذلك أني خرجت من مكة إلى بغداد أطلب العلم فأعطتني أمي أربعين ديناراً وعاهدتني على الصدق فلما وصلنا أرض همدان خرج علينا عرب فأخذوا القافلة فمر واحد منهم وقال ما معك قلت أربعون ديناراً فظن أني أهزأ به فتركني فرآني رجل آخر فقال ما معك فأخبرته فأخذني إلى كبيرهم فسألني فأخبرته فقال ما حملك على الصدق قلت عاهدتني أمي على الصدق فأخاف أن أخون عهدها فصاح ومزق ثيابه وقال أنت تخاف أن تخون عهد أمك وأنا لا خاف أن أخون عهد الله ثم أمر برد ما أخذوه من القافلة، وقال أنا تائب لله على يديك فقال من معه أنت كبيرهم في قطع الطريق وأنت اليوم كبيرنا في التوبة فتابوا جميعاً ببركة الصدق».

وَيَنشَأُ ناشِئُ الفِتيانِ مِنّا عَلى ما كانَ عَوَّدَهُ أَبوهُ وَما دانَ الفَتى بِحِجىً وَلَكِن يُعَلِّمُهُ التَدَيُّنَ أَقرَبوهُ انظر كيف حرص هؤلاء على تعليم أولادهم وتلاميذهم الأدب قبل العلم والخلق قبل الفقه، حتى إذا ما تعلم الطالب وتصدر للتدريس ومعترك الحياة كان لديه من الأدب والخلق ما يحميه من الزلل ويمنعه من الخطأ.

والتعلم قبل التأدب قد يقود المرء إلى الغرور والعجب والكبر وهي أخلاق لا يتصف بها أهل العلم، إننا في المدرسة أو الجامعة نتعلم الدروس ثم نواجه الامتحانات، أما في الحياة فإننا نواجه الامتحانات وبعدها نتعلم الدروس.

استفد من كل ما يقابلك في الحياة، فهي رسائل من الله لك، تأملها، وخذ من معانيها فسليمان عليه السلام استفاد من نملة، وقابيل تعلم من غراب.

ويكبر الإنسان، فيتوقّف أهله عن تربيته، ويصبح حينها أمام خيارين: أن يستمر في تربية نفسه فيهذبها، أو أن تتغلب عليه نفسه فيصبح أسيراً لهواها.

صحب ابن المبارك رجلًا سيئ الخلق في سفرٍ، فكان يحتمّل منه ويداريه، فلما فارقه بكى، فقيل: ما يبكيك؟ فقال:«بكيته رحمة له؛ فارقته وخُلقه معه لم يفارقه».

قال أبوحازم: «سيئ الخُلُق أشقى الناس به نفسه التي بين جنبيه».

فلا تكن عبد عادة، ففي العادات تختزل الحياة والعاقل حيثُ يَجعَل نفسَه، والجَاهِلُ حيثُ تجْعَله نفسُه.

وحسبُ امرئٍ شرّاً بإهمال نفسهِ وإمكانها من كلّ شيءٍ أرادتِ.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ybzp62jh

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"