الإيديولوجيا والعِلم

00:15 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبد الإله بلقزيز

كيف نميّز الإيديولوجيا من العِلم، وما نِصابُ كلٍّ منهما؟

يتعلّق الأمر، هنا، بصعيدين من المعرفة اختلف المفكرون والدارسون في تحديد نوع العلاقة بينهما، على الرغم من أن معرفةَ أحدهما تفرض معرفةَ الثاني. هل تعني الإيديولوجيا حقاً «علم الظّواهر»: على نحو ما يستنتج عبد الله العروي ذلك من نظرة ماركس إليها؟ ذلك ما يدعمه مجرّدُ وصف الظاهرات في تَبَدِّيّاتها الخارجية؛ لأنه وصف يقدم صورة مطابِقة للنظام القائم لا لحقيقته التي تظل محجوبة عن الإدراك الوصفي. هذه «معرفة» وصفية لا سبيل إلى التحرر منها إلا من طريق نقدها؛ أي - تحديداً- من طريق وضع أساساتِ بناء معرفةٍ علمية. فإذن، توجد معرفة الظاهرة - أو العلم بها - تاليةً، دائماً، لوصفٍ هو في حكمِ تعريف إيديولوجي لها؛ لذلك هي تأتي (أي المعرفة) في صورة نقد لتلك الإيديولوجيا. هذا يعني - من وجهٍ آخَر - أن منطق الإيديولوجيا مناف لمنطق العِلم: إنه منطق تبريري، من جهة، وتجزيئي من جهةٍ أخرى بحيث يكشف الجزء ويُخفي الكل.

يمكن الاحتجاج (وهذا هو عيْنُ ما فعله عبد الله العروي) لصالح هذه القراءة لمفهوم الإيديولوجيا؛ أي بما هي معرفةُ الظّاهر، من طريق استدعاء فكر جورج لوكاتش والاستعانة بقراءته المتميزة لمفاهيم البضاعة، والتّشيُّؤ، والاستلاب وسواها من المفاهيم التي كان ماركس قد استخدمها لتحليل نظامِ الإنتاج الرأسمالي. لقد نجح لوكاتش في أن يلتقط معطى ثقافياً في غاية الأهمية، ينطوي عليه الفكر الغربي، حين لاحظ ما يُضْمِرُه فيه ذلك الفكر من تعارض بين الموضوع والذات. المقصود بالموضوع، هنا، محصَّلَة العمل الإنساني الذي هو بطبيعته، متغيّرٌ وخاضع لقانون التراكم، لكنه يُدْرَك في الفكر الغربي (البرجوازي) بوصفه جامداً لا يخضع للتطور. أما الذات فتبدو، لجورج لوكاتش، مجرد انعكاس للموضوع فلا تؤثر فيه أي تأثير ولا تصنعه، بل تتأثر به فحسب.

هذا ما قد يفسّر لماذا ذهب فيلسوف كبير، مثل إيمانويل كَنْت، إلى الجزْم باستحالة إمكان معرفة الذات للموضوع في ذاته أو في حقيقته، وإنما فقط في ظاهره أو في تَبَدّياته المعايَنَة والملموسة. ولذلك - في ما يرى لوكاتش - علاقة بواقع اجتماعي يشهد لذلك الامتناع الفكري (عن معرفةِ ما يُجاوِز الظّاهر)، ويتعلق بمصالح الطبقة الوسطى؛ فهذه المصالح تفرض على الفلسفة الغربية التمسك بالملموس: المادي والمباشر. لذلك ما من إمكانٍ، عند جورج لوكاتش، لتجاوُز ازدواجية الذات والموضوع، في الثقافة الغربية، والنظر إلى ما وراء الملموس (ما وراء وعي الظاهر). هذا، بالذات، ما انتهى بلوكاتش إلى الحكم على الفلسفة الغربية الحديثة وعلى العلوم الوضعية بأنها إيديولوجية؛ فهي جميعها، عنده، ليست جدلية ولا تعكس في الذهن إلا ظاهر الشيء.

لا يتوقف لوي ألتوسير عند هذه الازدواجية التي تناولها لوكاتش، ولكنه يسلم - من جهته - بأن الموضوع معطًى قائمُ الذات وبأنه ليس عصيّاً على الإدراك، كما يقول كَنْت وتلامذته، بل تظل معرفته ممكنةً، دائماً، متى لم تتعرض لعرقلة من الذات تصبح معها هذه عائقاً أمام قيام معرفة صحيحة للأشياء والظواهر، بل تصير مدخلاً إلى إثبات نقيضها. ليستِ المشكلة، بهذا المعنى، في الموضوع إنما هي، عند ألتوسير، في الذات التي قد تصبح حائلاً دون العلم بالأشياء علماً مطابقاً. لذلك كان نفيُ الطابع الذاتي من المعرفة، عند ألتوسير، شرطاً لتحرير تلك المعرفة من الإيديولوجي فيها؛ إذِ الذاتية - كما يقول مستصحباً واحدةً من يقينيّات العلم التجريبي - هي الإطار المرجعي لكل نظرة إيديولوجية إلى أشياء العالم وظواهره. لقد طبق هو نفسُه هذه القاعدة على فكر ماركس حين حاول أن يقيم التمييز بين اللحظة الإيديولوجية في تفكيره واللحظة العلمية التي اعتبرها لحظةَ النضج في تفكيره. لقد وضع فاصلاً قاطعاً بين الإيديولوجيا والعِلم لا مكان معه لرؤية أيِّ علاقة أخرى بينهما غير علاقة القطيعة الكاملة.

بهذه النّظرة الحَدِّية الصارمة يتميز موقف لوي ألتوسير عن موقف ماركس من مسألة الإيديولوجيا والعِلم؛ الموقف الذي لم يسقط فيه الأخير في العِلمويّة كما سيسقط ألتوسير، ولا نظر إلى الإيديولوجيا بتلك النظرة النكراء التي طبعت فلسفة ألتوسير. كان ماركس يتصوّر أن العلم يُكْتَسب من طُرُقٍ عدّة منها نقد الإيديولوجيا، خاصة في ميدان تَجَلّيها الرّئيس: مجال الاقتصاد السياسي؛ أما ألتوسير - الذي أقام بينهما فصلاً قاطعاً - فَرَدَّ كُلاًّ منهما إلى ميدان خاص به ناظراً إليهما بمنظار معياري يفاضل بينهما على نحوٍ يرتفع فيه بمرتبة العِلم إلى أعلى، ويهبط بمرتبة الإيديولوجيا إلى أسفل بعد وجْباتٍ من ذمِّها والقدْح فيها. وغنيٌّ عن البيان أن مثل تلك المفاضلة المعيارية لا يمكن أن يكون إلاّ فعلاً إيديولوجياً بامتياز؛ إذِ الإيديولوجيا، في المقام الأول، نظرة معياريّة إلى العالم والأشياء والأفكار خلافاً للنظرة الوضعانيّة التي هي سمْتُ العلم وديْدَنُه: أو هكذا هو شأنُها عند مَن يعتقدون ذلك.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3stbfvya

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"