عادي

السرد الإماراتي.. مرآة ذاكرتنا الاجتماعية

23:32 مساء
قراءة 7 دقائق
1
السرد الإماراتي.. مرآة ذاكرتنا الاجتماعية

الشارقة: جاكاتي الشيخ

يُعد السرد من أكثر مجالات الأدب ارتباطاً بالتحولات الاجتماعية، لأنه يرتكز على الخوض في الحياة الجمعية للشعوب، وإن انطلق في ذلك من الغوص في الذات الفردية، وبَسْط ما يعتمل داخلها للقراء بلغة أدبية معبّرة، إلا أن ذلك الغوص والتحليل لا يعدو كونه تحليلاً للمجتمع بشكل عام، في مجمل تمظهراته الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، ما يجعل من السرد مرآة لتحولات المجتمع وذاكرته، وهي تحولات تنعكس بدورها على السرد ذاته.

لمعرفة أهم التحولات التي عرفها السرد الإماراتي، والوقوف على أنواع البنى السردية فيه، وطبيعة التغيرات التي طرأت على تقنيات كتابته الإبداعية المختلفة، وأشكاله، نحاول في هذا الاستطلاع أخذ آراء وتصورات أربعة من المشتغلين في المجال السردي في الإمارات؛ إبداعاً وبحثاً، ومتابعة، وهم: الدكتورة مريم الهاشمي، والكاتبة خولة السويدي، والباحث علي العبدان، والكاتبة فاطمة حمد المزروعي.

  • رحلة تحولات

تقول الدكتورة مريم الهاشمي: «لا يمكن أن نتصور شكلاً ثابتاً في السرد الأدبي، بخاصة جنس الرواية؛ لأنها وجدت لترتحل وتتحول - عبر الزمن - في الشكل، والتجريب، والتعدد، ولم توجد ليضبطها شكل واحد، فقد أوجدها الإنسان لتعبّر عن رحلته، ووجوده في الأزمنة الحديثة، وعليه، لا يمكننا أن نتصور أسلوباً فنياً واحداً لكتابة الرواية، لأن فكرة الكتابة بأسلوب واحد تتعارض مع الصيرورة الشكلية التي يتأسس عليها جنس الرواية، فالتمسك بقالب محدد للرواية يجعلها في حالة التباس واضح، ذلك أن الحديث عن شكل ثابت يمنع عنها المراجعة الداخلية العميقة، وأن هذا الاكتشاف الذي تشتغل عليه الرواية كجنس أدبي لتثبيت هوية محددة المعالم؛ صار مسألة إشكالية بالنسبة إلى هويتها الإجناسية؛ لأن أي بحث عن الاكتمال في جنس أدبي معيّن يعني موته، وتوقف العطاء الإبداعي فيه، وبالتالي فإن المجال السردي في حالة بحث دائم عن القدرة الداخلية له».

د. مريم الهاشمي

وتضيف الهاشمي قائلة: «إن رحلة التحولات السردية - على مستوى التجربة - رحلة دائمة بين الأجناس المختلفة، غير قارّة، ولا ماكثة، فهي مرتحلة في المعنى، وأزمتها من أزمة الإنسان، وإن دولة الإمارات من المجتمعات سريعة التغيّر، والتحوّل، ومنفتحة بشكل كبير على الآخر، بحكم الاندماج والتنوع الديموغرافي، ما أثر - بطبيعة الحال - في التعبير عن الواقع، وعن الذات، بصورهما المختلفة، ومن ذلك التعبير السردي، حيث ازدهرت الرواية، وتعددت أنواعها، وتشعبت أغراضها، كما اختلفت أساليبها، وتدرجت مستوياتها، وتنوعت مصادرها، وتسارعت في تطوّرها، ورحُبَت مجالاتها، وتمرّدت على القوالب المعهودة، مستوعبة الكثير من عناصر الفنون الأخرى».

وترى الهاشمي أن الوقوف على التحولات السردية في الإمارات هو وقوف على التحولات الإنسانية في هذا المجتمع، والذي مثل غيره من المجتمعات، وهو كشف لمدى تأثر الذات بكل تلك التحولات، والتي أدت إلى التغيّر في السردية، وتباين أنماطها في مراحلها التاريخية المختلفة، ومدى حضور هذا التباين، أو التطور، وفاعليته في التغيير الإبداعي، وفي المتلقي الذي هو أسّ العملية الإبداعية، ومحورها، وتشكل القراءات النقدية أهم الأدوات للوقوف على تفاصيل هذه التحولات.

وإذا كانت د. مريم الهاشمي قد أطّرت لهذا الموضوع، الذي سبق أن تناولته في كتاب خاص بالعنوان نفسه، وتحدثت عن أهم مساراته، فإن الكاتبة خولة السويدي تستعرض لنا أهم تلك المسارات، إضافة إلى السمات التي يكاد يجمع الباحثون على أنها ترسم ملامح التحولات السردية في الأدب الإماراتي.

  • تقنيات سردية

تتفق خولة السويدي مع د. مريم الهاشمي على أن التحولات الإنسانية والاجتماعية في دولة الإمارات، والانفتاح على مفاهيم جديدة، تعتبر من أهم أسباب التحولات في الرواية الإماراتية، حيث تعتمل تلك التحولات والتغيرات في أذهان الكتّاب، الذين تعتبر ملكاتهم مرايا تعكس المجتمع، وحياته، وبيئته، لتتم صياغتها من طرف كل كاتب حسب رؤيته، بالموازاة مع التطور الحضاري الكبير والواسع الذي واكب تلك التحولات، وعمل نقلة نوعية في مختلف البنى الاجتماعية، والتي تعتبر المجالات الإبداعية والأدبية بشكل خاص، أهم تمظهراتها، سواء من الناحية الفكرية البحتة، أو من ناحية معالجة القضايا المستجدة، حيث تنقلت الأجيال بين حقب زمنية تختلف كل حقبة جديدة منها عما سبقها، فكان لذلك التنقل، والتجدد، أثر واضح ودور كبير في تغير طريقة التناول السردي عبر الزمن.

خولة السويدي

وتقول السويدي: «إن التحولات السردية في الرواية الإماراتية تشعبت إلى مسارات عدة، أهمها: المسار التاريخي، والمسار الواقعي، والمسار العجائبي، فالحكايات السردية في الرواية الإماراتية تجددت بشكل كبير، فكان ينعشها في كل فترة نسيج فني متفرد عما سبقه في الروايات الأقدم، فخرجت لنا تقنيات مختلفة ومبتكرة، تمثلت في سمات عدة من بينها: انسكاب لغة شعرية ثرية حملت بعض الروايات إلى عوالم زاخرة بالإبداع السردي، بعد أن كانت جلّ الرويات تعتمد السرد العادي، من دون أن تركز على جودة المستوى التعبيري للغة، وذلك ما نراه جلياً في بعض الأعمال الروائية، مثل روايات الكاتبة لولوة المنصوري، إضافة إلى سمة العمق الفكري، التي تُمزج فيها الفلسفة بالحبكة السردية، من أجل العبور إلى مكامن الحدث، وهو ما يظهر في أعمال روائية أخرى، مثل روايات الكاتب علي أبو الريش، كما أن السمة التاريخية تعتبر نهجاً واضحاً ارتكز عليه بعض الكتّاب في رواياتهم، مثل الكاتبة ريم الكمالي، والكاتبة نادية النجار».

  • تفضيل

ولأن السرد الأدبي في الإمارات لا يقتصر على جنس الرواية فحسب؛ فقد فضل الباحث علي العبدان الحديث عن التحوّلات السردية في القصة القصيرة الإماراتية، فهو يرى أن تحولات القصة هي نِتاج التحولات السياسية (قيام الاتحاد)، ثم الاجتماعية، والاقتصادية، والديموغرافية؛ سريعة التعاقب في مجتمع الإمارات، وقد أثّرت هذه التحوّلاتُ في مسار القصة القصيرة أكثر من غيرها، حيث كانت الشكل السردي المفضل للأدباء الإماراتيين منذ نهاية الستينيات، وطيلة حقبة السبعينيات من القرن الماضي، حتى جاءت الرواية فيما بعد، واتخذت موقعها في الساحة الأدبية في الإمارات، وتتجلى آثار تلك التحولات في سعي الأدباء الإماراتيين إلى كتابة قصة ناضجة بالمعنى المعاصر، وفي تعدّد اتجاهات القَص، وأساليبه، مثل الكتابة الواقعية المَشوبة بالكلاسيكية، كما يظهر – مثلاً – في قصص محمد المرّ، واستعمال أسلوب التداعي الحرّ، الذي تمثله قصص سلمى مطر سيف، ثم جاءت العجائبية متمثلة في قصص من بينها بعض نصوص عبد الحميد أحمد، واللغة المكثفة الرمزية التي تتجلى في أعمال قصصية مثل نصوص عبد الله صقر، وغيرها.

علي العبدان

ويلفت العبدان إلى أن التنوّع والتحول في السرد القصصي لم يقتصر على الأساليب، ويقول: «مثلما تنوّعت الأساليب السردية في القصة الإماراتية؛ فإن موضوعاتها بدورها شهدت تنوّعاً عكَس التأثر بالتحولات التي سبق ذكرها، فمنها الحنين إلى ماضي الحياة الإماراتية، بخاصة علاقة الإماراتيين بالبحر، وقد شهدت على ذلك أولّ مجموعةِ قصصية جماعية نُشرت في الإمارات، والتي كانت بعنوان »كلنا.. كلنا.. كلنا نحبُ البحر»، ومن تلك الموضوعات تناول حياة الفئات الهامشية في المجتمع، بخاصة العمالة الوافدة، كما في «أشياء كويا الصغيرة» لعبد الحميد أحمد، و«إتهاد.. كليج.. بيان» لناصر الظاهري، ومنها أيضاً، موضوع القضية الفلسطينية، كما في قصة «شادي» لعبد العزيز خليل، وقصة «الرحيل» لسعاد العريمي، كما كانت الذاتية والوجدانية حاضرة في قصص أخرى كثيرة». ويوضح العبدان أن العقدَين الماضيَين شهدا ظهور تحوّلات أخرى، من أهمّها طغيان التأثر بالشعر الحديث في الكتابة السردية، ويضيف موضحاً: «أقصد طغيان الشعر الحديث، حتى على مسار الأحداث ووضوح الحبكة، في أحيان كثيرة، وقد يعكس هذا ضعفاً لدى بعض الكُتّاب في صياغة قصصهم، ولعلّ هذا ما دفع بعضهم أيضاً إلى المُغالاة في اقتباس العبارات والنصوص الأدبية، العربية والعالمية، لخلق (ديباجة) تُوشّى بها مقدمة القصة، التي هي في غِنى أصلاً عن ذلك».

  • أشكال

الكاتبة فاطمة حمد المزروعي ترى أن موضوع التحولات السردية في الأدب الإماراتي موضوع كبير، ومتشعب أيضاً، ما يجعله يصلح لأن يكون موضوعاً لعدة رسائل دكتوراه، أو كتب من أجزاء عدة؛ حتى يستطيع تغطية الأنواع السردية كلها، ويحيط بمختلف التحولات، ويدرسها دراسة عميقة، فالكثير من الباحثين يقفون عند الرواية، التي تنال نصيب الأسد من البحث والاستقصاء، إضافة إلى القصة القصيرة التي تنال بعض الاهتمام، وإن كان لا يرقى إلى المستوى الذي توضع فيه الرواية، من حيث التناول، فيما تظهر القصة القصيرة جداً بشكل خجول، فهي لا تزال خارج مجال الاهتمام البحثي، رغم أنها تشكل تحولاً بارزاً في الشكل السردي الإماراتي. وتستعرض المزروعي نماذج من التحولات التجديدية في السرد الإماراتي، والتي يعكس بعضها تأثراً متبادلاً بين الأجناس السردية، مثل ما يحدث في بعض الأعمال القصصية القصيرة، فتقول: «إن ممن عمدوا إلى اختراق النوع السردي في الإمارات القاصة ابتسام المعلا، التي وظفت تعدد الأصوات في الرواية بإتقان في مجموعتها القصصية «ضوء يذهب للنوم»، فهذه التقنية تتيح للشخصيات أن تعبّر عن آرائها، ووجهات نظرها المتعارضة، لتفلت من هيمنة الصوت الأحادي، وممن وظّف هذا الشكل في الأدب العربي الروائي الكبير نجيب محفوظ في روايته «ميرامار»، وهو شكل يمكّن الشخصيات من إبداء وجهات نظر مختلفة، فكل منها تنظر للأحداث نفسها التي وقعت من زاويتها الذاتية، ومن ثم يؤثر في فهم الشخصيات، ورؤيتها للعالم، فالقاصة ابتسام المعلا مزجت بين تقنيات نوعين سرديّين، هما الرواية والقصة، حيث يمكن قراءة القسم الأول من المجموعة القصصية من خلال تعدد الأصوات كوحدة واحدة، وهذا لا يعني أنها ليست قصصاً مستقلة بذاتها، وإنما يختلف الأمر تبعاً لزاوية النظر التي تحدد طبيعة المقاربة والتقنيات المستخدمة».

د.فاطمة حمد المزروعي
د.فاطمة حمد المزروعي
  • ملمح

وتواصل المزروعي استعراض التحولات التجديدية في أشكال السرد الإماراتي، لتقف عند ملمح آخر من هذه التحولات، ألا وهو القصة القصيرة جداً، التي تقول إن عدداً - غير قليل - من الكتّاب والكاتبات الإماراتيين بدأوا بكتابتها، بخاصة في العقدين الأخيرين، وهي جنس جديد من السرد الأدبي، سمّيت ب «القصة الومضة»، و«القصة القصيرة جداً»، و«الأقصوصة»، أو«اللوحة القصصية»، وكذلك «المقطوعة القصصية»، ولعل أشهر تلك الأسماء في الدراسات النقدية العربية الحديثة، هو اسم «القصة الومضة»، أو «القصة القصيرة جداً»، ويعتمد هذا الشكل السردي على أمرين أساسيّين، هما: القِصر والطول، كما تتوفر فيه بعض العناصر القصصية، مثل الشخصية، والحدث والحبكة، ويعتمد أيضاً على حذف معظم الأحداث غير المؤثرة، ما يمنحها خاصية التكثيف؛ لأن كلمة واحدة - مثلا - قد تغني عن أحداث كثيرة، ويستطيع القارئ أن يتخيلها؛ وأما من ناحية بنائها الفني، فإن معظم القصص ليست لها بداية، حتى أنها تبدأ من النهاية، أو من الوسط، وغالباً ما تكون النهاية مفاجئة، وصادمة، ومن الكتّاب الإماراتيين الذين أبدعوا في هذا المجال السردي الكاتب سلطان العميمي، في «الصفحة 79 من مذكراتي»، و«تفاحة الدخول إلى الجنة»، فهو جنس أدبي سردي يكمل بوجوده التحولات الشكلية في السرد الأدبي الإماراتي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/p2e82fc6

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"