اللعب بمفهوم الواقع

00:13 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

يحلو للكثيرين في مرحلة ما بعد الحداثة التلاعب بجميع الأفكار بداية من التاريخ ومروراً بالفلسفة وليس انتهاءً بالأدب، حتى الواقع نفسه يبدو حقلاً خصباً للعب أو العبث. فمنذ عقدين تقريباً قال المفكر الإيطالي إمبرتو إيكو «لا وجود لوقائع ولكن جميع ما يحيط بنا ما هو إلا تأويلات»، وكان الفيلسوف الفرنسي جان بودريارد قد ذهب قبل ذلك إلى أن حرب الخليج الثانية لم تقع، وكل ما شاهدناه لم يكن أكثر من صناعة تلفزيونية فائقة الحداثة. ومنذ سنوات أعلن ستيفن هوكنغ من منطلق علمي موت الفلسفة، فأسئلة وقضايا الفلسفة الكبرى أصبحت منوطة بالعلم الطبيعي، تُبحث في المختبرات ومراكز الأبحاث ولم يعد لها من مكان في أبراج الفلاسفة العاجية، ولم يعد العقل كما أُسست ركائزه مع التنوير معياراً لكل شيء، وباتت أطروحات حول قدرة العقل على إثبات وجود النفس والعالم الخارجي من الماضي.

إن النماذج السابقة تظهر لنا مع قليل من التأمل، أن مرحلة ما بعد الحداثة تتأسس على فكرة الواقع المتشظي أو السيّال أو العصي على الحصر والإحاطة، كما أنها مرحلة تتميز بالشك في الكثير من المسلمات واليقينيات، وترفض الأبنية الفكرية النظرية المتماسكة، وتقوم في جزء كبير منها على اللعب بمفهومه شبه الفلسفي، حيث لا قوانين، في هذا الإطار، مثلاً نفهم انتشار سؤال «ماذا لو؟» في التاريخ، والذي يحاول تغيير ترتيب الوقائع كما حدثت في الماضي ورسم سيناريوهات بديلة لهذا الحدث أو ذاك من خلال تخيل مختلف للقوى الفاعلة في الوقائع.

صحيح أن بعض هذه السيناريوهات قدمت إضاءات على مسائل مهمة وشائكة إلا أنها ظلت في النهاية مجرد لهو، ووصل الأمر إلى الأدب أيضاً، فهناك من يصنع سرديات جديدة من خلال اللعب بالكتب والكتّاب، وعلى سبيل المثال، يعيد البعض الآن قراءة الأعمال الشهيرة من وجهة نظر أخرى، بحيث يمكننا أن ننسبها إلى مؤلفين آخرين، ف«الأخوة كارامازوف» لدستويفسكي أقرب إلى روح الفيلسوف الألماني نيتشه من كاتب روسيا الأشهر، وتبدو «ذهب مع الريح» رواية من تأليف تولستوي لا مرغريت ميتشل..الخ.

ولم ينته اللعب عند ذلك، بل أراد البعض له أن يكون مؤثراً، فهناك تنظيرات تحاول أن تقنعنا بأن الخيال أكثر تأثيراً في أرواحنا من الواقع نفسه، وتساءل البعض لماذا ننفعل بمشهد سينمائي أو وصف روائي أكثر من تأثرنا بالمجازر التي نشاهدها أحياناً على شاشة التلفزيون؟ ودخلت التكنولوجيا الفائقة الحداثة على الخط، وصيغت مفردة الواقع الافتراضي، بكل ما طرحته من أسئلة إشكالية.

أصبح الإنسان في العقدين الأخيرين محاطاً بواقع ثلاثي الأبعاد، الأول حقيقي، والثاني خيالي تنتظم فيه الآداب والفنون والمنتج الثقافي عامة، والثالث واقع مغاير تماماً حيث يمضي معظم البشر الكثير من وقتهم على الشبكة أو على مواقع التواصل.

ومع مرحلة الذكاء الاصطناعي، ربما نحن على موعد مع سيناريو جديد يحمل في جنباته بعداً رابعاً لمفهوم الواقع، حيث توجد حياة جديدة كاملة توازي حياة الإنسان نفسه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2tsdexsu

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"