صحة الثقافة في وحدتها

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

تعاني الثقافة العربية ظاهرة ربما لا نجد لها شبيهاً في ثقافة أخرى، ونعني ذلك الفصل الحاد بين ثقافة نخبوية وأخرى شعبية. بالطبع هناك ذلك التقسيم بين نوعين من الثقافة في بلدان وحضارات أخرى عدة، ولكن بينما شهدت العديد من تلك النماذج الأخرى تداخلاً وتمازجاً بين هاتين الثقافتين، إلا أن الفصل الحاد بينهما ظل يميز ثقافتنا العربية وحدها.

في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي انتشرت موجة المشروعات الفكرية التي كان يهدف أصحابها إلى الخروج بنظرية حاكمة حول الثقافة، تفيدنا في الإجابة عن سؤال: كيف ننهض؟ في هذا الإطار نلاحظ أن كل هذه المشروعات لم تلتفت إلى الثقافة الشعبية، ظلت تدور في حدود الثقافة النخبوية أو العالِمة، كما أطلق عليها محمد عابد الجابري في مشروعه لنقد العقل العربي. وهنا يثور سؤال إذا كانت هذه المشروعات تبحث في مسألة النهضة، فإن نقطة قصورها الأساسية تتمثل في عدم الالتفات إلى الثقافة الشعبية وتجاهلها، رغم أنها وحدها المنوط بها التعبير عن أحلام وآمال البشر، مدار النهضة المنشودة، وهي التي تُظهر كيف يفكرون وكيف يسلكون وما هي قيمهم ورؤيتهم للعالم. والملاحظ أيضاً أنه ليست تلك المشروعات، وحدها، التي تجاهلت الثقافة الشعبية، بل الاشتغال الفكري العربي بأكمله منذ موجة النهضة التي شهدناها خلال النصف الأول من القرن العشرين، وربما هذا ما أكسب ثقافتنا طابعها النخبوي الذي تميزت ولا تزال تتميز به.

تركت الثقافة الشعبية دائماً إلى التخصص الأكاديمي الخاص بها، أو أوكلت مهمتها في أحسن الأحوال إلى أحد فروع علم الاجتماع، أما على المستوى الإبداعي نفسه، فإن الثقافة الشعبية ظلت أيضاً بعيدة عن تذوق النخبة، وهناك الكثير من السير الشعبية العربية، فضلاً عن الأمثال والموسيقى والأساطير... إلخ، لا مكان لها في مختلف أشكال المنتج الفني النخبوي الحديث.

وإذا تطرقنا إلى ثقافات أخرى، سنجد أن ما حدث كان العكس تماماً، فالثقافة الغربية الحديثة قد تمثلت حكاياتها وخرافاتها الشعبية، وأثّرت الموسيقى الشعبية هناك في أجيال من المثقفين، ونقرأ عندهم عن السلّم الثقافي المتحرك، فمؤلفات شكسبير التي اعتبرت لفترات طويلة شعبية نجدها تنتقل في مرحلة لاحقة إلى ثقافة النخبة، وبعد ذلك يصبح شكسبير ملكاً لجميع الفئات والشرائح. ويقدم مفكرون كُثر قراءات في «حكايات أندرسن» و«أليس في بلاد العجائب»، وهو نوع آخر من الحراك، يلغي الحدود بين ثقافة للكبار وأخرى للأطفال، تلك الحدود الواضحة الموجودة بقوة في ثقافتنا العربية، بل سنعثر على قراءات بحثية موزونة لشخصيات «الكوميكس» تلك التي لا يعرفها مثقفونا العرب أو لا يعيرونها أي أهمية، بوصفها تقع في الدرك الأسفل من المنتج الثقافي ووظيفتها الإثارة والإمتاع.

هناك تتمتع الثقافة بالحركة وتتسم بالتغيير والقدرة على الصعود بمنتج ما، نتيجة لتغير الذوق وتبدّل ترتيب الأولويات، بما يعني ببساطة أن الثقافة حية نابضة، والأهم أنها صحية لا تتسم بانشطار حاد أو ثبات في الرؤية أو مقولات مكررة ومقولبة ومحفوظة قُتلت بحثاً حتى وصلت إلى طريق مسدود.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5n6z24pe

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"