في الانتباه إلى الثقافة الشعبية

00:43 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبد الإله بلقزيز

ممّا يؤسَف له أنّ مجموعةً هائلة من مجتمعات العالم وشعوبه ما كانت تعير اهتماماً - أو قُل انتباهاً - لثقافاتها الشّعبيّة، ولما تحويه هذه من كنوز جماليّة ورمزية، قبل أن ينبّهها الغربيّون إلى ذلك من طريق إقبالهم على منتوجات تلك الثّقافات وزيادة الطّلب عليها. بدأ ذلك في الحقبة الكولونيالية، لكنّه زاد بعدها أكثر مما كان قبلاً حين بدأ الأوروبيّون يتدفّقون على تلك البلدان باحثين عن النّفائس الثّقافيّة الشّعبيّة فيها: في الأسواق التّقليديّة والبازارات؛ وفي مهرجانات الفنون الشّعبيّة ( الفولكلور). ثمّ لم يلبث قسمٌ من المتكوّنين في مجالات الفنون التّشكيليّة، والسّينمائيّة، والمسرحيّة، وعلم الاجتماع، والأنثروپولوجيا، في المعاهد المتخصّصة والجامعات في أوروبا وأمريكا الشّماليّة والاتّحاد السّوڤييتيّ (سابقاً)، أن شَرَعوا في العودة إلى أوطانهم وفي تنمية الاهتمام بتراثهم الثقافي الشعبي في دوائرهم الثّقافيّة والأكاديميّة قبل أن تنْضم المؤسّساتُ الرّسميّة إلى ركْب المهتمّين به، ولكن هذه المرّة ليس من أجل إنصاف الثّقافة الشّعبيّة وتمكينها من موارد التّطوّر، بل لاكتشاف هذه المؤسّسات الفوائدَ المتولّدة من تسخير تلك الثّقافة في الاقتصاد السّياحيّ!

إذا تركنا جانباً الخلفيّات الماديّة والرّبحيّة للسّياسات الرّسميّة تجاه الثّقافة الشّعبيّة وأغراض تلك السّياسات من الاهتمام بها، لدى قسمٍ غالبٍ من دول العالم، فإنّ دولاً أخرى سلكتْ مسْلكاً مختلفاً واعتنت بأمرها لأهداف لا علاقة لها بالرّبح الماديّ، وإنّما لاتّصال ذلك الاعتناء باستراتيجيّاتٍ للبناء الوطنيّ كان في جملتها السّعي إلى تحقيقِ هدفٍ مركزيّ استقلاليّ: بناء شخصيّة وطنيّة مستقلّة.

نحن، هنا، إزاء تجارب دول وحركاتٍ وطنيّة ابتغت، منذ بدايات الاستقلال السّياسيّ، تعظيم الشّعور بالهويّة والذّاكرة التّاريخيّة وبعراقة الانتماء، وكان ذلك - أحياناً - رداً مباشراً منها على سياسات الاستعمار الذّاهبة إلى محْو الشّخصيّة الوطنيّة والقوميّة وتبديدِها؛ ولكنّه أتى - في أحايين أخرى - يعبّر عن إرادة تعزيز الاستقلال الوطنيّ من طريق ترسيخ الشّعور الجمعيّ بالهويّة والانتماء الوطنيّ. هكذا تحوّلتِ الثّقافةُ الشّعبيّة من موردٍ ثقافيّ - أو موردٍ ماديّ - إلى موردٍ سياسيّ وموردٍ وطنيّ يدخُل في تكوين الأوطان والهويّات.

على أنّ التّأخر في الانتباه إلى الثّقافة الشّعبيّة والاعتناء بها، في الفكر وفي السّياسات، يمكن أن يُرَدّ كذلك إلى سببٍ آخر غير التّقصير أو الجهل؛ إلى العلاقة المعيوشة به من طرف شعوب تلك المجتمعات. بيان ذلك أنّ من يعيش ثقافة ما: يُنتجها ويستهلكها وتدْخل في نسيج يوميّاته، لا يملك أن ينظر إليها بما هي كيان يحتاج منه إلى انتباهٍ واهتمام؛ إذْ هي جزء منه محايِث ينتمي إليه وليس منفصلاً عنه في المكان أو في الزّمان. كان التّقليد، حينها، هو النّظام السّائد وما كانت الثّقافة الشّعبيّة لتبدوَ شذوذاً في ذلك النّظام، أو حالة متجافيةً مع قيمه.

غير أنّ الأمر اختلف حين بدأ التّحديث الماديّ والثّقافيّ ينفث نتائجه ويفرض قيمه على النّظام الاجتماعيّ، وخاصّةً حين ترجّحت كفّته على كفّة التّقليد بقوّة أحكام التّطوّر والتّراكم. بدا، عند ذلك، وكأنّ تلك الثّقافة الشّعبيّة تنتمي إلى التّقليد، وإلى الماضي أو أنّها تنفصل عنّا أو توشك على ذلك. وإذا كان قد وُجِد من نظر إليها بسلبيّة شديدة، بدعوى أنّها ترمز إلى الماضي وأنّها منتوج من منتوجات التّقليد، وبالغ في ممارسة صُوَرٍ من الاستعلاء الثّقافيّ عليها في غمرة اندفاعته إلى تبجيل ما هو حديث والتّبشير به، فقد وُجدَ - في المقابل- مَن صحّح هذه النّظرة السّلبيّة إليها بعد كشف بطلانها، ومَن أعاد إليها الاعتبار بما هي لحظة من التّعبير الشّفاف عن البيئة الأنثروپولوجيّة العريضة للشّعب وعن نظام القيم لديه.

مع ذلك، مع تزايد معدّل مصالحة الشّعوب والنّخب مع تراثات شعوبها الثّقافيّة، وتزايُد اهتمامات أدبائها وباحثيها ومؤسّساتها الثّقافيّة بها، ينبغي أن لا يصْرِف ذلك انتباهنا عن مضاعفات سلبيّة قد يقع فيها الاحتفال الشّديد بالثّقافة الشّعبيّة فيستجرّ بذلك نتائجَ بالغةَ السّوء في الميدان الثّقافيّ. هذا أمر وارد حدوث خاصّة حينما يميل ذلك الاحتفال الشّديد إلى التّعبير عن نفسه في أشكال مختلفة من التّبجيل الذّاتي الذي تتغذّى منه النّزعات النّرجسيّة في أيّ ثقافة.

ولقد يكون من ثمرات ذلك ترسيخُ نزعةٍ من الحنين إلى الماضي الذي أنجب تلك الثّقافة الشّعبيّة؛ وهو حنين تغذيه تجارات للقديم مربحة ونافقة في عصر التّحديث، ورغبة جامحة في الاختلاف عن السّائد في المحيط (التّحديث). ومع أنّنا لا ننكرر مشروعيّة أيّ نوستالجيا إلى الماضي، لأنّها سلوك متوازِن يُضْمِر مصالحةً معه واعترافاً نبيلاً به، إلاّ أنّنا نخشى من أن تقود أزماتُ التّحديث، في مجتمعات اليوم، إلى ارتدادٍ عكسيّ وعنيفٍ عنه يتّخذ شكلَ انكفاءٍ إلى الماضي وقيمه ورموزه، واللَّواذ به والبحث فيه عمّا يحقّق توازناً نفسيّاً عصفتْ به أوضاع الحاضر.

نقول ذلك لأنّنا بِتْنا نَلْحَظ كيف أصبح الاحتفاءُ بالثّقافة الشّعبيّة، في بعض البيئات الثّقافيّة، يكتسي طابعاً هجوميّاً وعدوانيّاً ضدّ الثّقافة العالِمة وقيم العقل والعقلانيّة؛ وهو، قطعاً، منعطفٌ سيّئ في النّظر إلى ثقافة الشّعب وثقافة النّخب على السّواء!

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdzn348t

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"