عادي

تراثنا الشعبي.. جهود متواصلة ينقصها المنهج العلمي

00:00 صباحا
قراءة 7 دقائق
1
1

الشارقة: علاء الدين محمود

تهتم كل أمة بتراثها المادي والروحي؛ لأنه مستودع ماضيها، والدرع التي تحمي هويتها الوطنية، والأثر الذي يعلن وجودها الحضاري بين بقية الأمم، وهو في أحيان كثيرة مصدر قوة وتفوق؛ إذ تتسرب عناصر ذلك الإرث إلى الجينات والوعي الجمعي ويتمظهر في شكل سمات وقيم وأخلاق وسلوك ونمط عيش وطريقة حياة، فكلما كان تراث بلد ما قوياً ومتنوعاً ومتعدداً، كان دليلاً على تقدم الشعب ورقيه.

أولت الإمارات بصورة رسمية اهتماماً كبيراً بالتراث، يظهر ذلك الأمر من خلال المؤسسات العديدة في كل إمارات الدولة، تلك المهتمة بالبحوث بكل أشكالها، وبجمع وحفظ الموروث المادي وغير المادي، سواء المتعلق بالعمران والمعالم، أو في المفردات التراثية الأخرى؛ إذ تمثل حياة الماضي للإماراتيين الكثير، فهي مصدر الفخر بأنفسهم كشعب وببلادهم، وينعكس التراث الإماراتي في كافة التقاليد الموروثة الخاصة بنمط الحياة الاجتماعية؛ إذ إن بيئة الدولة نفسها متنوعة ومتعددة، فهناك البحر الذي يمتلك مفرداته التراثية الخاصة به من أدوات ومعدات وأمثال وأشعار ومقولات وخرافات، وكل ما يشير إلى أن هنالك حياة سادت على سواحل البحر لا تزال تؤثر في الكثيرين ممن تربوا وعاشوا هناك، وكذلك ينطبق الأمر على الصحراء بحضورها الأسطوري، الحقيقي والمتخيل، وحكايتها وقصصها وأشعارها وآثارها، ولا يزال الإماراتي، يتلفت بقلبه إلى تلك الأمكنة الصحراوية؛ حيث حياة البداوة الأولى وما ساد فيها من بطولات وأمجاد وقيم محفوظة في الأشعار والحكايات وفي سلوكيات الناس؛ حيث أورثتهم السماحة والأخلاق النبيلة المتمثلة في الكرم والمروءة والنجدة والوفاء والشجاعة، كما يحضر الجبل بهيبته وجلال صمته، مورثاً قاطنيه عبر الأجيال الشموخ، وفي البال حكايات وقصائد تروى عنه.

جهود بحثية

وقد وجدت كل تلك المفردات اهتماماً من قبل الباحثين بمختلف تخصصاتهم ووسائل بحثهم، فمنهم من مارس طريقة تقليدية في التقصي والكتابة عن التراث وجمع الحكايات المنتشرة هنا وهناك، ومنهم من تأثر بالتطور التكنولوجي وظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وهناك من يتكئ على الأساليب العلمية في البحث الميداني، وكلها محاولات مهمة هدفت إلى التوثيق وكتابة الموروث الشفاهي، وقد بدأ الأمر مشجعاً للباحثين بشكل أكبر بعد ظهور المؤسسات الثقافية الحكومة والخاصة، وجميعها متخصصة في أمور وشؤون التراث؛ استجابة لتوجه الدولة في هذا المجال.

فجوة

وعلى الرغم من كل تلك الجهود البحثية في مجال التراث الإماراتي، سواء الجماعية التي تقف خلفها المؤسسات، أو الفردية بصورها المتعددة، يبرز سؤال، إلى أي مدى تبدو مرضية تلك الجهود المبذولة في ما يتعلق بالبحث والتحليل والجمع والحفظ والتوثيق، وهل لا تزال هناك مناطق في تراث الدولة لم تصلها أيادي البحث بعد؟ وكيف تتم تلك الجهود التي تتعامل مع الموروث الإماراتي؟ ويتصدى للإجابة عن تلك الأسئلة التي تطرحها «الخليج»، عدد من المشتغلين بالبحث التراثي في الإمارات، والذين اتفقوا على ضرورة توظيف واستخدام المناهج العلمية في البحث والتي تغيب عن الكثير من دراسات التراث.

تقييم

الباحث والكاتب فهد المعمري، أوضح أنه حتى الآن لا يوجد تقييم للبحوث والتحليل في مجال التراث، وبدون ذلك الأمر لا يمكن الحديث عن الرضا أو عدمه في ما يتعلق بالجهود المبذولة؛ حيث إن المحاولات لا تزال جارية في ذلك الشأن، لكن غياب المنهج العلمي قد يؤثر كثيراً في تلك المساعي البحثية، والعديد من المشتغلين في البحوث والتوثيق تنقصهم المعلومات، ويجب ألا يقتصر الأمر على جانب دون آخر؛ أي يجب ألا يكون التركيز منصباً على مفردات معينة في التراث، بل تتسم الجهود بالشمول؛ إذ تبرز أهمية البحث في التراث بشقيه المادي وغير المادي.

1

ويشير المعمري إلى أن هنالك حلقات وأجزاء مفقودة في عملية البحث، خاصة في ما يتعلق بالتراث غير المادي؛ إذ تكاد الجهود تنصب فقط على المأكولات الشعبية والحرف وغيرها من مفردات، ويقول المعمري: «نفتقد للعمق في البحث التراثي، فهو غير موجود، لكنّ هنالك مساعيَ وكتاباتٍ هنا وهناك، غير أنها لا تزال بعيدة عن الإحاطة بكل التراث الإماراتي».

ولفت المعمري إلى أن هنالك اشتغالاً في مجال معين من التراث غير المادي مثل الشعر النبطي، لكن ينقصه الكثير مثل بناء القصيدة ومصادرها وموقع الإنسان في الشعر النبطي، كما أن هناك عدم اهتمام بدقة المعلومات، فبعضهم يحاول أن ينجز بحوثاً بغض النظر عن التحري، وهناك شخصيات حية وموجودة لكن ترجمتها في الإصدارات والمؤلفات غير دقيقة، وتكثر فيها الأخطاء مثل: تاريخ ميلاد الشاعر أو مكانه، وكل ذلك يشير إلى غياب العمق الفكري، حيث لا توجد خطوط منهجية في عملية البحث.

ويقول المعمري: «التراث ليس مجرد إرث فقط بلا دلالات، بل هو حياة كاملة جرت في الماضي، وتظهر كيف عاش الناس»، بالتالي لا بد من الدقة في عملية التقصي، وأن يتسم البحث بالشمول والمنهجية، كما أن هناك غياباً في تناول الحياة البرية والتعمق في دراسات لمفردات مثل الصيد والنخلة والإبل وأنواع الخيام، كما تفتقر المكتبة لدراسات كثيرة ووافية حول «رحلة المقيظ»، وهو من المناسبات والطقوس الثقافية والاجتماعية المهمة التي مارسها الإماراتيون في الماضي القريب، لم يتم تناولها بصورة عميقة، وغياب ذلك الأمر جعل الناس لا تفهم مغازي تلك الرحلات.

وانتقل المعمري بالحديث إلى نقطة مهمة وهي عدم الإلمام بأدوات البحث الميداني، وتلك مسألة في غاية الأهمية، فكثير من جيل الشباب لا يقومون بعملية المسح، بل يعتمدون على المعلومات الموجودة في الإنترنت، وذلك خلل كبير؛ إذ لا بد من التسلح بالأدوات الميدانية اللازمة، فهناك رواة أحياء وفي المقدور زيارتهم؛ إذ لا بد من توفر المعلومات الأولية قبل بدء البحث، لكن الجيل الحالي متعجل ويريد الإنجاز في أقصر وقت.

عمق ثقافي

من جانبه أكد الدكتور سالم زايد الطنيجي، المحاضر في الدراسات الإماراتية، أهمية الحرص والدقة في عملية البحث؛ حيث إن التراث مادة دسمة وثرية ومتنوعة وتحفل بالعمق والجمل والمفردات الثقافية التي ترتبط بالبيئة والإنسان والتاريخ والهوية، لذلك لا بد من التعامل معه بصورة أكثر علمية ومنهجية.

1

وشدد الطنيجي على أن البحوث حتى هذه اللحظة لم تشمل جميع التراث الإماراتي، فالكثير من الباحثين لم يتصدوا لتلك المهمة بعد، وهي مسؤولية كل أفراد المجتمع في جمع ونشر التراث وتعميق ثقافته، وتوريث الأبناء حب الموروث والقيام بالواجب تجاهه حفظاً وتوثيقاً؛ إذ إن التراث العربي له جذور واحدة سواء في الإمارات أو الخليج أو العالم العربي.

وذكر الطنيجي أن «الرضا»، هو معيار صعب تحقيقه، لكن لا بد من السعي في حفظ التراث، وذلك أمر يحتاج إلى تضافر الجهود، وهنالك بالفعل الكثير من المفردات التي تحتاج إلى البحث حولها والكتابة عنها.

وأوضح الطنيجي أن هناك جهوداً في كل المجتمعات البشرية في جمع وحفظ التراث، لكنها تظل محدودة ولم تأخذ حقها من البحث والتمحيص، ويقول الطنيجي في هذا الصدد: «لكننا في الإمارات أفضل من غيرنا، حيث توجد مؤسسات كثيرة ترعي الدراسات وتحمي التراث وتوثقه».

ولفت الطنيجي إلى أن البحث يحتاج إلى الكثير من الجهد؛ مثل ضرورة توفر الفرق المدربة، وهناك أهمية لبذل المساعي في دراسة البيئات المختلفة، البحرية والجبلية والصحراوية، مع ضرورة توفر الخطط العلمية في توثيق الموروث؛ حيث إن الشعر، على سبيل المثال، في البيئة البحرية يختلف عن ذاك الذي نجده في بيئة الجبل، من حيث المعاني والمفردات والدلالات، فهذا جانب يحتاج إلى الكثير من الإضاءة والعمل.

ويقول الطنيجي: «بات التراث مهدداً من قبل التكنولوجيا التي أنْسَت الناس الكثير من موروثهم الشعبي، ولا بد أن توظف لمصلحة العمل في التنقيب والبحث»، كما دعا الطنيجي إلى أن تكون هناك مسابقات وكتابات أكثر حول التراث لتغطية كل جوانبه غير المطروقة، كما يجب الاهتمام أكثر بالبحث في مجال الأمثال والخرافات والألغاز والأقوال وغير ذلك من مفردات تراثية بصورة عميقة وعلمية.

نقلة نوعية

أما الدكتور حمد بن صراي، فقد ذكر أن ما توصل إليه من جهود بحثية، منذ بداية السبعينات من القرن الماضي وحتى الآن، يعد نقلة نوعية؛ فهناك طفرة هائلة في الاهتمام بالتراث، وبصورة خاصة غير المادي، وفي هذا السياق نجد أن الشعر نال القدر الأكبر من البحث المطلوب.

1

وأكد ابن صراي ضرورة نقل الاهتمام بالتراث إلى الجامعات الخاصة والحكومية، والاجتهاد في توفير مواد تدرس الموروث بشقيه المعنوي والمادي، ومن الضروري أن نعلم أن دراسة التراث مسألة حساسة، ويجب ألا يدخل الهواة إلى هذا الميدان لأنه «ليس لعبة» بل عملية جادة تتعلق بحضارة الدولة وتاريخها وبالهوية الوطنية. كما شدد على ضرورة الاهتمام بالمطبوعات والإصدارات والمجلات العلمية المحكمة التي تعنى بالتراث، مشيراً إلى أن هناك مجلة «الموروث»، الصادرة عن «معهد الشارقة للتراث»، وهي تجربة يجب أن تعمم في كل الإمارات. ولفت ابن صراي إلى أهمية أن يتسلح الباحثون والذين يكتبون في التراث بالعلم جهة التوثيق ودقة المعلومات، كما يجب أن يجد التاريخ الشفاهي قدراً أكبر من الاهتمام، وتحويل المرويات الشفاهية إلى كتب ومؤلفات.

مؤسسات رسمية

من جهته أكد الكاتب والباحث أحمد محمد عبيد، أن البحث في حقل التراث وتوثيقه ودراساته يحتاج إلى عدد من العوامل والأشياء؛ منها: وجود خطة منهجية شاملة تصدر عن مؤسسة رسمية لها علاقة بالموضوع، وأن يكون نطاق البحث شاملاً، كما أن من الضروري دراسة التراث أكاديمياً وهو أمر مختلف عن البحث الانطباعي.

1

كما أكد عبيد، ضرورة وجود مجموعة من الباحثين الميدانيين والأكاديميين المتخصصين في التراث، فهذه الأمور هي من الأساسيات المطلوبة في عملية البحث.

ولفت عبيد إلى أن المادة المجموعة في بعض الأحيان لا يحاط بها إحاطة تامة، أو «شبه تامة»، خاصة مع وفاة بعض الرواة، وعدم وجود باحثين قادرين على تغطية وتحليل النص التراثي والربط بين مجموع المعلومات في الحقل الواحد، مشيراً إلى أن الباحث والكاتب الراحل أحمد راشد ثاني كان من القلة التي تمتلك هذه المقدرة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/chwef82f

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"