عادي
في شاعرية البصر

خط الثلث..قواعد جمالية تحاور العين

14:21 مساء
قراءة 3 دقائق

الشارقة: جاكاتي الشيخ

تكتسب أعمال الخطاط التركي محمد أوزجاي أهميتها من طابعها الخاص، الذي تمتاز فيه ببُعدها التجديدي، وذلك لتنفيذه إياها مُستخدماً حبراً سيالاً بألوان مختلفة، ومحاولته إظهار انسيابية الحروف العربية وقدرتها عن تنويع التشكيلات الجمالية، وبذلك صار له أسلوبه الشخصي في هذا المجال، ونال شهرة واسعة جعلت منه واحداً من أهم الخطاطين المعاصرين انتشاراً في جميع أنحاء العالم.
ينتقي أوزجاي تصاميم أعماله بحيث لا تكون مكرِّرة لما سبقها، فيشتغل عليها بكل ما أوتي من موهبة حتى تظهر بالشكل الذي يُبرز طابعه الشخصي، كما يمتاز أسلوبه بأناقة الحروف ومتانة التراكيب وخلوها من الشوائب، وهو ما تأتّى له بعد أن أتقن أهم أنواع الخط العربي، وخاصة خطوط النسخ، والإجازة، والديواني الجلي، والثلث الجلي، والثلث الذي خط به اللوحة المعروضة بين أيدينا.
*طابع خاص
خط أوزجاي في هذه اللوحة «الحمد لله»، واختار كتابتها بخط الثلث العادي، الذي لم تحل كثرة الأعمال المنجزة به دون استمرار الخطاطين في تقديم الجديد فيه، مثل ما فعل هو في هذه اللوحة، وذلك لما يتميز به هذا الخط من قابلية للتجديد والإبداع والإبهار الجمالي، رغم صعوبة تنفيذه، فهو من أكثر الخطوط وضوحاً ودقَّة في القواعد والموازين، ويمنح الخطاط مرونة في كتابة الحروف والكلمات، وفرصة لإبراز براعته في التأليف، كما يتيح الابتكار والتنويع في التراكيب، ويسهل فيه ظهور البصمة الخاصة لكل خطّاط عن سواه، وذلك ما كان له دور كبير في تميّز لوحات أوزجاي الخطية التي تعوَّد المتلقون على إنجازه لها بطابعه الخاص.
و أسهمت معرفة أوزجاي للغة العربية في حسن اختياره لنصوص لوحاته، حيث يجتهد على أن تكون المضامين عميقة، وذات دلالات معنوية وشكلية تسمح بتجسيدها في الشكل الفني الذي يطمح له، وهو ما جعله يختار لهذه اللوحة دعاء «الحمد لله»، والذي يعبر – رغم قصره – عن الكثير من المعاني الإيمانية التي ما إن يتأمل الإنسان كتابتها حتى تسري في وجدانه، فالحمد لله مُستحقّ للخالق الذي لا تحصى نعمه، والحمد هو أفضل الدعاء، وبه افتتح الله سبحانه خمس سور هي: الفاتحة والأنعام والكهف وسبأ وفاطر، ولذلك تفتتح به الخُطب وتبارك به المجالس وتستريح به الأنفس، فالمؤمن يحمد الله على كل حال.
*تجسيد
ولتجسيد مضامين لوحته، كتب أوزجاي «الحمد لله» بتركيب متناظر في منتهى الدقة لكلمة «الحمد»، وكأنها معكوسة في مرآة، وهو ما قد يُصعِّب على غير المتأمِّل قراءتها، وقد تعمّد ذلك من أجل جرِّ المشاهد للتركيز في النص وتأمّل مضمونه والتمتُّع بجمال تصميمه، فكتب الألفَ ألفيْن ممتدتين ومتناظرتين، لتتقاطعا أعلى الشكل، وكأنهما كفّان مرفوعتان لحمد الله، وكتب اللامين في حضنيهما بمستوى أصغر، وكتب الحاءين مندمجتين ومتقابلتين، لتُشكّلا إحدى نقاط تلاقي الشكل المتناظر، واسترسل في كتابة كل واحدة منهما باستدارة حتى كتب الميم المتصلة بها، واسترسل من الميمين حتى كتب الدالين مندمجتين ومتقابلتين، لتشكّلا بدورهما إحدى نقاط تلاقي الشكل المتناظر، في ما كتب اسم الجلالة في قلب المستوى العلوي للشكل للدلالة على أنه جلّ جلاله من له الحمد، وكأن الخطاط يريد بهذا الشكل المتناظر أن يؤكد عمق دلالة حمد الله وقيمته، فالحمد له على كل شيء، ومهما كانت الظروف، فالله يُحسن على عباده بفضله، والعبادُ يعودون إلى الله بشكره وحمده، وعبادته التي ما خلقهم إلا لها.
لقد أبدع أوزجاي في هذه اللوحة من جميع النواحي، حيث كان تصميم التكوين الشكلي بديعاً، كما كان الالتزام بالخصائص الجمالية لخط الثلث واضحاً، من دون أن ينسى التركيز على اختيار الألوان الملائمة للمضمون فكانت الخلفية باللون البرتقالي الذي يعكس تفاؤل المؤمن بحمد ربّه، وسعادته بعطائه، وإحساسه بالإيمان ودفئه، فيما كتب النص بحبر بُنِّي شفَّاف، ليثبت وفاءه لأسلوبه الخاص في تنويع لون الخط، وليوحي من خلاله بقوة الصلة بين العبد الحامد وربّه.
*إضاءة
ولد محمد أوزجاي في تركيا سنة 1961م، ونشأ في أسرة تعشق الخط العربي، ودرس في ثانوية الأئمة والخطباء وتعلم فيها اللغة العربية وكيفية كتابتها، وتخرج سنة 1986م من كلية الإلهيات، التابعة لجامعة أتاتورك، حيث تعرف هناك إلى الخطاط فؤاد باشار، فأخذ عنه خط النسخ أولاً، ثم تعلم على يديه خط الثلث بعد ذلك، واشتغل على موهبته حتى صار خطّاطاً متمكّناً، ليقدم أعمالاً متميزة، ويفوز بالعديد من الجوائز في مقدمتها ست جوائز من مختلف فروع مسابقة مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية بإسطنبول (إرسيكا)؛ أهمها الجائزة الأولى في الثلث والنسخ، كما خط نسخة من المصحف الشريف طُبِعت عدة مرات بمقاسات مختلفة، ونشر سنة 2007م بعض أعماله الفنية التي توالت خلال خمسٍ وعشرين سنة في كتابه المعروف بـ «نور عيني».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3f4z7zmz

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"