فجوة النمو عبر الأطلسي تتزايد.. لماذا؟

21:32 مساء
قراءة 4 دقائق

د. عبدالعظيم حنفي*

منذ العام الماضي، تزايدت التحليلات في مراكز الدراسات الأمريكية، وفي تقارير الصحف الأمريكية الكبرى التي تتحدث عن عجز أوروبا عن مجاراة القوة الاقتصادية للولايات المتحدة. تخلّف اقتصاد أوروبا كثيراً وراء الاقتصاد الأمريكي. ولا تدع للقارئ فرصة للشك، أو التشكيك؛ فلغة الأرقام صارخة. في عام 2008 كان اقتصاد الولايات المتحدة واقتصاد منطقة اليورو بالحجم نفسه تقريباً، واليوم يتزايد التفاوت بنسب كبيرة متزايدة لمصلحة الاقتصاد الأمريكي، نتيجة ضعف اقتصاد منطقة اليورو. هذا التفاوت بينهما لا يوجد بمقياس واحد فقط، فمتوسط الدخل الأوروبي الآن أقل بنسبة 27% من متوسط الدخل في الولايات المتحدة، ومتوسط الأجور أقل بنسبة 37%. علما بأنه حتى عام 2000، كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي على جانبي الأطلسي على نحو مماثل تقريباً. ومع ذلك، بدأ المسار بالتباعد، وأصبح التباعد حاداً بشكل خاص منذ عام 2010، فصاعداً، عندما نما نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة بمعدل 3.4 في المئة، في حين زاد نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الاتحاد الأوروبي بنسبة 1.6 في المئة. ومن ثم كان نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة أكبر بنسبة 47% من نصيب الفرد في الاتحاد الأوروبي، وفي عام 2021، اتسعت هذه الفجوة إلى 82%. وكشفت بيانات صندوق النقد الدولي نمو اقتصاد منطقة اليورو بنحو 6 % خلال الـ15 عاماً الماضية، قياساً بالدولار الأمريكي، مقارنة بزيادة قدرها 82 % للولايات المتحدة. وإذا استمر الاتجاه الحالي لنصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي، فسوف يبلغ متوسط نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة في عام 2035 نحو 96 ألف دولار، في حين يبلغ متوسط نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي في الاتحاد الأوروبي نحو 60 ألف دولار. وهذا هو الفارق نفسه في نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي بين اليابان والإكوادور، اليوم. والمؤشرات تجسد تفوق اقتصاد الولايات المتحدة على اقتصاد أوروبا، فكما تقول التقارير الأمريكية «إن شركات التقنية الأمريكية تهيمن على القارة الأوروبية، والبنوك الأمريكية أوفر أرباحاً، إلى حد بعيد، مقارنة بالبنوك الأوروبية، والإنتاج الأمريكي من الطاقة أوجد ازدهاراً في الصناعة التحويلية يُغري العديد من الشركات الأوروبية بالمجيء إلى الولايات المتحدة. فأمريكا مكان تسهل فيه ممارسة الأعمال، وتقلُّ فيه الإجراءات التنظيمية، والآن تنخفض فيه كثيراً، تكاليف الطاقة، فكيف يستثمرون في أوروبا؟».
وذكرت وكالات الأنباء أن اثنتين من كُبرى شركات النفط في أوروبا، «شل» البريطانية ،و«توتال إنرجيز» الفرنسية، تفكران في التخلي عن بورصتيهما في لندن وباريس، لمصلحة إدراج اسميهما في «وول ستريت»، لإحباطهما بسبب القيمة المنخفضة لأسهمهما، مقارنة بشركات النفط الأميركية الكبرى،
فما أسباب تزايد فجوة النمو عبر الأطلسي؟
تخبرنا المراكز الاستراتيجية وتقارير اقتصادية أمريكية بأهم تلك الأسباب كالتالي:
(1) وفق تقرير لجان الإصلاح التي كوّنها الاتحاد الأوروبي للخروج من الانحدار الأوروبي، فإن القضية المركزية هي انقسام أوروبا الذي تجاوز الحد.
(2) الافتقاد إلى شركات رقمية قوية، ولمعالجة ذلك تلك الفجوة فإن توفير شركات رقمية قوية يتطلب ثلاثة عوامل، هي: مواهب هندسية عظيمة وسهولة الحصول على رأس المال وسوق كبيرة يمكن أن تطرح فيها المنتجات الجديدة بسرعة وبكميات كبيرة. الولايات المتحدة تتوافر فيها كل هذه العوامل، أما أوروبا فلديها بعض أفضل المهندسين الموهوبين في العالم، ولديها إمكانية الحصول على رأس المال، لكنها ليست سوقاً موحدة، على الرغم من أنها كثيراً ما تعتبر كذلك. فرواد الأعمال في حقل التقنية يصارعون للتعامل مع 27 سوقاً مختلفة، تحكمها ضوابط إجرائية وسلطات ومعايير ومتطلبات مختلفة. وهذا هو السبب في أن أوروبا فيها مدخرات خاصة تصل إلى 33 تريليون يورو، لكن في كل عام يتم تحويل 300 مليار يورو إلى أسواق خارجية بحثاً عن استثمارات أفضل معظمها في الولايات المتحدة.
(3) يتزايد اليوم القلق في أوروبا بشأن تخلّفها في المنافسة الشرسة لتحويل الثورة الصناعية الرابعة إلى واقع ملموس، وإحدى العقبات الأكثر ذكراً لسدّ هذه الفجوة هي الافتقار إلى ثقافة ريادة الأعمال في أوروبا، واحتياجها إلى تغيير ثقافة ريادة الأعمال أكثر من المال، ولديها فشل مزمن في تشجيع رواد الأعمال، فاقتصاد ريادية الأعمال هو الذي قفز بالاقتصاد الأمريكي إلى معدلات نمو مرتفعة في التسعينيات، ولذا ظلت توقعات نمو الإنتاجية دوماً في الولايات المتحدة أعلى من نظيره في أوروبا التي لا تُظهر نفس الحيوية، وهذا يؤدي إلى اتساع فجوة النمو بين واشنطن وبروكسل.
(4) استمرار قيام إدارة بايدن بممارسة شكل من أشكال القومية الاقتصادية في الهيمنة، وهي استراتيجية تؤكد على الصناعة الأمريكية والوظائف الأمريكية، والإعانات الجذابة التي تقدمها واشنطن لمشاريع الطاقة الخضراء وأشباه الموصلات التي يتم بناؤها، ما أدى إلى إغراء أعداد كبيرة من الشركات الأوروبية لتحويل أنشطتها إلى هناك، وانتقال الاستثمارات الخاصة من اقتصاداتها إلى الولايات المتحدة.
(5) نتيــــجة اتـــجــاه دول الاتحـــاد الأوروبـــي إلـــى زيادة الإنفاق الدفاعي، ولأن المنتجين الأوروبيين لا يغطّون احتياجات القارة بأكملها، فإن جزءاً كبيراً من الإنفاق الدفاعي يذهب إلى الشركات الأمريكية.
(6) الاقتصاد الألماني، -أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، وهو الصخرة التي يتكئ عليها الاقتصاد الأوروبي بأكمله- يتجه إلى الانكماش نتيجة أسباب متعددة، من أهمها:
أ- تكاليف الطاقة المرتفعة بعد الاستغناء عن الطاقة الروسية المنخفضة.
ب-النموذج الألماني المعتمد بشكل كبير على الصناعة، وعلى التصدير، ما جعل الصناعات الألمانية خاضعة بشكل شبه كامل بنمو الطلب العالمي. ولذلك، عندما تأثر العالم بعدد من المشكلات التي جعلته تحت الضغط الاقتصادي، كانت الصناعات الألمانية في طليعة القطاعات المتضررة. وما زاد الأمر سوءاً أن ألمانيا وضعت ثقلها في هذا القطاع من دون أن تنوع في قطاعات أخرى. فقطاع التقنية في ألمانيا، على سبيل المثال، متأخر مقارنة بالدول الأوروبية، والسبب في ذلك ليس قلة الأفكار الابتكارية في ألمانيا، فهي أكبر دولة من ناحية إنتاج براءات الاختراع في أوروبا، ولكن تحويل هذه البراءات إلى أعمال تجارية، بسبب ضعف الدعم الحكومي لهذه الابتكارات.
*كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/43d3n4nw

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"