أفكار أوليّة

00:08 صباحا
قراءة دقيقتين

ينصرف الأدب إلى الجزئي، إلى التفصيلي، والجزئي هو عينة من العام والشامل، وهو إذ يفعل ذلك لا يلغي العام، إن أجناساً من الأدب كالرواية بالذات تقدّم ما يمكن أن نسميه «البانوراما»، أي الرؤية الشاملة للأشياء التي تتطلب امتداداً في الزمان والمكان، لكن الأديب ليس مؤرخاً حتى وإن تقاطع مع المؤرخ في بعض الجوانب. الأديب يغوص في التفاصيل محللاً بعمق النوازع الإنسانية للأفراد والشخوص وهم يصنعون الحدث. إنه قادر على أن يلتفت إلى تفاصيل صغيرة مهمة ليس بوسع المؤرخ أن يراها، لأن المؤرخ يُركز على الواقعة التاريخية، أما الأدب فيفحص جوانبها المختلفة. التفاصيل التي يهتم بها الأدب لا تفقد المشهد الرئيسي قيمته إنما تساعدنا على أن نمسك بهذا المشهد بصورة أدق وأعمق.
علينا أن نميّز بين السياسة في مفهومها اليومي، وهو مفهوم معرّض لأن يكون مبتذلاً ومتقلباً وغير ثابت، والدور النقدي للثقافة، الثقافة هي التعبير الأعمق عن وجدان الناس، عن تصوراتهم ومشاعرهم ورؤاهم للحياة والأشياء. الثقافة مظلة واسعة من الرموز والتعبيرات والمشاعر والعادات.. إلخ، أما السياسة فأضيق نطاقاً من ذلك بكثير.
حتى إذا دار الحديث عن السياسة في مفهومها العميق فعليها أن تستند على خلفية أو رؤية فكرية – فلسفية، على قاعدة تندرج في الإطار الثقافي، وهذه الرؤية بحاجة إلى تجديد دائم وتطوير، والاغتناء بمستجدات الحياة، وشجرة الحياة خضراء أما النظرية فرمادية اللون، وإذا كان علينا أن ننحاز فإن انحيازنا إلى نسغ الحياة الأخضر، لا إلى رمادية النظرية.
التقسيم بين المهم والهامشي ليس دقيقاً دائماً. لا يوجد شيء هامشي في المطلق وشيء مهم في المطلق، يمكن «للهامشي» في لحظة من اللحظات أن يكون أكثر أهمية من «المهم»، ويمكن للمهم أن يكون هامشياً في لحظة أخرى. حتى أكثر التفاصيل بساطة وعادية هي مهمّة. مهارة الكاتب أن يرى ما هو جميل أو مثير حتى في أكثر الأشياء والظواهر العادية. يمكن لتفصيلٍ بسيط نعبر عليه كل ساعة عبور الكرام أن يتحول إلى موضوع تأملي عميق على يد كاتب جيد. علينا عدم الاستخفاف بالأشياء العادية، لأنه لا توجد فكرة عادية وأخرى غير عادية، يوجد تناول عادي وتناول غير عادي، وطبيعي أن الكاتب الجيد هو من يحرص على أن يكون تناوله للموضوعات غير عادي.. الموضوعات هي نفسها متاحة للجميع، ومهمة كل كاتب أن يتناولها بطريقته الخاصة، وقد يوفق وقد لا يوفق.
حين يتصل الأمر بالفكر فعلينا أن نُغلّب الشك دائماً على اليقين، لأن الشك هو طريق المعرفة المتجددة. للركون إلى اليقين، خاصة حين يكون طويل الأمد، تبعات ضارة.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/nzvaae6k

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"