جدل الأداة والمحتوى

00:01 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

مع كل اختراع جديد، خاصة في ما يتعلق بحقل الإعلام أو نقل المعرفة على مستوى جماهيري، يثور جدل حول العلاقة بين الأداة والمحتوى، فيذهب البعض إلى أننا نستطيع أن نستخدم ذلك الاختراع كما نشاء ونضمّنه المواد التي نريد بالأسلوب الذي يخصّنا، وهو الجدل نفسه الذي يردده البعض الآن ومنذ سنوات مع التكنولوجيا الحديثة وتوابعها من تطبيقات ومواقع تواصل اجتماعي، فنحن نستطيع تقديم المحتوى الذي نريده، وغالباً ما تكون هذه الرؤية متعلقة بمن يملكون أهدافاً جادة ويسعون إلى نشرها من خلال تلك الوسيلة الجديدة.
هذه الرؤية في العمق تعود إلى الأدب، حيث كان هناك نقاش واسع بين شكل الجنس الأدبي ومضمونه، وهي رؤية كلاسيكية لم يعد أحد من نقّاد أو محلّلي الأدب يقول بها، ومع نشأة وسائل الإعلام الجماهيرية بداية بالإذاعة ومن ثمّ السينما والتلفزيون، والكثيرون يرددون أن بإمكانهم التحكم في ما يقدم في هذه الوسائل، وهو توجّه بدوره فيه نظر ويحتمل أكثر من رأي، فالمادة التي كانت تقدم في المسرح لم تكن تصلح للسينما لاختلاف طبيعة الأداة، فالفيلم لا يحتمل تلك الحوارات المطولة بين بطلين أو تلك الأحداث التي تدور في بيئة مكانية مغلقة، والمسرح بدوره لا يمكنه الانفتاح على أماكن متعددة في الوقت نفسه، ومفهوم الدراما نفسه يختلف من المسرح عن السينما، والحال ينطبق على الإذاعة والتلفزيون، حتى إننا نجد أن طبيعة المادة المنشورة تختلف في المجلة الفصلية عن الصحيفة برغم وحدة الأداة الورقية التي تبدو متطابقة من الوهلة الأولى.
إذا وصلنا إلى التكنولوجيا الحديثة وتوابعها، سنجد المسألة أكثر وضوحاً، فطبيعة الأداة تفرض محتواها وبقوة، ولا يمكننا أن نتدخل هنا أو نتحكم في المحتوى أو نقدم ما نريده، مع الأخذ في الاعتبار أن تلك التكنولوجيا تختلف عن الأدوات السابقة في العديد من النواحي، فإذا كانت الصحافة والتليفزيون والسينما أدوات تشرف عليها في الكثير من الأحيان نخب، بكل ما تحمله الكلمة من أبعاد ثقافية واجتماعية، فإن السمة الأبرز في التكنولوجيا الجديدة أنها لا تعرف النخبوية، بل إنها تتناقض مع فكرة النخبة نفسها، كذلك فإنه إذا كان هناك نوع من الرقابة يسود الأدوات السابقة، فإن أداتنا الجديدة تكاد تخلو منها، أو هكذا يبدو في الظاهر، أو إن الرقابة هنا لأغراض أخرى تماماً.
وإذا نظرنا إلى طبيعة عمل التكنولوجيا نفسها، فسنجد أنها لا يمكن أن تحتوي مضموناً جاداً أو رسائل تتضمن أفكاراً كبرى، فالكتابة في مواقع التواصل محكومة بعدد من الكلمات، البعض يذهب إلى أننا يمكننا التعبير عن أية فكرة من خلال التكثيف، ولكن منطق الكتابة الحقيقية نفسه، وإن كان يتوافق مع التكثيف مرة فإنه لا يقبله في معظم الأحيان، وسيكون المنتج النهائي هو ما نشاهده في الأغلب بعد كل هذه السنوات: مواد سريعة وخفيفة لا تبني عقلاً ولا تؤثر في ذائقة، فالأداة تفرض قانونها في النهاية، وهو قانون لا يمكن الهروب منه إلا بتغيير الأداة نفسها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2s49xxmk

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"