علاقة حب

01:27 صباحا
قراءة 3 دقائق
عائشة الكعبي

لا يحضر شهر نوفمبر/‏تشرين الثاني في بيتنا بدون مقدمات؛ إذ لابد من محادثات مطولة لرسم خطط احتفالية، ووضع قائمة عريضة بهدايا منتقاة بعناية، هي غالباً من النوع الرخيص جداً، إلا أنه يتعذر العثور عليها لانتمائها لحقبة زمنية منصرمة وتقنيات بائدة. هذه القائمة من الهدايا توزع على أصحاب النصيب من أفراد العائلة الكريمة؛ لكي يتمكنوا من تدبيرها قبيل اليوم الموعود، الذي يصادف عيد ميلاد ابنتي الأميرة . الأمر الذي لا يتحقق غالباً لسواها. ما لا تعرفه أميرة أن نوفمبر لا يهدهد أحلامها فحسب، بل وأحلام الطفلة التي تغفو في ذاكرة والدتها أيضاً. ويعيدها طفلة تمنّي نفسها بالهدايا التي لم تتوانَ في سعيها لاقتنائها منذ أن وقعت في غرام الكلمة المقروءة. منذ زيارتها الأولى لمعرض الشارقة للكتاب عام 1986. تلك الكتب المصفوفة على طاولات العارضين بعناوينها المدهشة، كانت تغريني بالتحديق بها إلى ما لا نهاية، وكأنها «سفرة» ممدودة مما لذ وطاب.
قلبي الصغير آنذاك، أو لعله من الأرجح القول عقلي الصغير، لم يكن ليتحمل كل تلك الإثارة، فينتهي بي الأمر معاقبة لتخلفي عن اللحاق بباص المدرسة في الموعد المحدد. ولا غرو في أن كل من عاصر تلك الأيام من أبناء جيلي، قادر على فهم الشعور الذي أحاول وصفه، كيف لا، وقد كانت موارد المتعة والتعليم محدودة آنذاك في مجتمع يثابر لشق طريقه بين الأمم الناهضة. الجميل هنا أن جذوة الإثارة وعلاقة الحب التي نشأت بيننا وبين الكتاب، لم تفلح في إطفائها شاشات الأجهزة الذكية، ولا تعدد نوافذ المعرفة والمتعة ويسر الوصول إليها. كنت أتمنى لو استمر هذا المفعول السحري للكتاب ومعارض الكتاب على حواس أبنائنا والأجيال الصاعدة، لكني أتفهم تماماً عدم انبهارهم في عالم تتفتح فيه أبواب الدهشة بنقرة واحدة. وتطوى فيه سنوات من البحث العلمي في دقائق من القراءة الرقمية. إنني أجد من الإجحاف بمكان أن نلقي باللائمة على أجيال اليوم في ابتعادهم عن الكتب الورقية، ونفترض مسبقاً أنها دلالة اضمحلال معرفي وثقافي. لكل عصر أدواته وأسلحته، ولا نستطيع تقييم أثر الأداة بمعزل عن البيئة التي تستخدم فيها.
لا أريد أن يفسر البعض كلامي خطأً، وهذا ليس تقليلاً من شأن الكتاب المطبوع بأي حال من الأحوال، إنما هي دعوة لتوسيع مفهوم الثقافة، وإنصاف الأدوات الأخرى، والمثقف الجديد. فكم تغنى العرب بجمال السيوف حتى يقال إن هناك أكثر من ثلاثمئة اسم للسيف في لغتنا العربية وحدها، إنما سيبدو أقرب للتهريج منه للبسالة، ذلك الذي يدخل معركة بالسيف في أيامنا هذه. وبما أننا نستعد لاستقبال عرس نوفمبر السنوي للكتاب، أتمنى ألا تقتصر شراكة المدارس ومعارض الكتاب في وطننا وفي الدول العربية على تنظيم الزيارات الطلابية للمعرض، وإنما لعمل إحصائيات حقيقية لمدى استفادة هؤلاء الطلاب من هذه الزيارات، وإدراج مقترحاتهم فعلياً في التخطيط للمعرض.
لا أعلم كم منكم لاحظ أن أطفاله باتوا يعودون من زياراتهم تلك بكتاب أو كتابين في أحسن الأحوال، أو بلا أي كتاب على الإطلاق، وذلك ليس نظراً لارتفاع أسعار الكتب فقط، وهو أمر لسنا بصدد مناقشته هنا، وإنما لأنهم لا يجدون ما يبحثون عنه، وما يشعل جذوة الإثارة في نفوسهم، فهم في أغلب الأحيان قد تخطوا هذه الكتب المعروضة بمراحل، وباتت لا تليق بعقلياتهم ومعرفتهم الموسوعية التي لم تغذيها المدرسة وحدها، بل تلك الشاشات التي يقضون أمامها معظم أوقاتهم شئنا أم أبينا. ونحن نقبل على عرس جديد للكتاب أتمنى أن يجد النشء الصاعد في هذا العرس ما يبقيهم على مقاعدهم حتى نهايته.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"