ملف ... كتّاب عرب عاشوا في الإمارات وفيها ولدت إبداعاتهم

استلهموا مفردات المكان وجمالياته التراثية والطبيعية
00:34 صباحا
قراءة 16 دقيقة
يرتبط المكان في حياة الانسان المبدع بمنظومة ذهنية ومفاهيمية تنتج عن سعي المبدع الى تجسيد المجردات في ملموسات ومحسوسات وإخضاعه العلاقات الانسانية لإحداثيات المكان. من هذا المنطلق نفهم مقولة غاستون باشلار في كتابه جماليات المكان: إن الانسان قادر على صنع كل شيء عدا عش الطائر، فالمكان بما يحتويه من بناء وحجر وتشكيلات هندسية وطرز معمارية شعبية وآثار قديمة وبقايا تراثية ومدن حداثية يستنطق ذاته ويفصح عن نفسه للمبدع بما تركه من مدونات لأقوال الناس العاديين وما خلفه عمال البناء من أثر وأفكار وحكايات عما مضى، وما يقرؤه المبدع من سرديات في كل زاوية من زوايا المكان تجعل هذا الأخير مسرحاً مباشراً يجسد فيه الروائي شخصياته أو يستمد منه القاص جزئية لافتة ليسلط عليها رؤيته المكثفة والعميقة في الوقت ذاته، أو يتحول الى موضوع لانفعال الشاعر او يتجسد في التشكيل من خلال ألوان ومواد مستخدمة تعبر عن العلاقة الحميمية بين المكان والمبدع.من هنا يأتي التماهي بين المبدع والمكان فيقع الأول أسيراً للثاني، ويصبح السؤال الأساسي لمتلقي العمل الفني عن المكان داخل هذا العمل، هل هو صورة مماثلة للواقع أم يجاوزه فيتحول الى رمز ودلالة؟ وهناك العشرات من الأعمال الفنية التي تطابقت مع المكان وعجزت عن تجاوزه، فأصبحت كالصورة الفوتوغرافية ربما نحتفظ بها ولكنها لا تستوقفنا في كل مرة نتطلع إليها، وثمة أعمال أخرى عبرت بذائقة حية متفردة عن جوانب ما من المكان أو رمزت بالمكان الى قضايا وجودية تتدرج من الوعي بالعالم الى طرح اسئلة اجتماعية عبر ترميزها مكانياً.وفي كتابه الموسوعي تاريخ الحضارة المادية والاقتصاد والرأسمالية يكتب المؤرخ الفرنسي فرناندبرودول سردية تاريخية كبرى للانسان عبر التأريخ لما يعيشه البشر يومياً، الملابس، الأثاث، أدوات الكتابة، النقود، طرز المعمار، الحمامات، طرق المواصلات، كلها عناصر مكانية ربما لا تلفت انتباه المؤرخ المعني بقضايا كبرى، ولكنها تجوهرت في أعمال إبداعية ميزت بالتأكيد بين ثقافة وأخرى، فالقارىء لأعمال الروسي ديستويفسكي وما تفصح عنه من برودة تكتنف مسرح العمل وشخوصه ينتقل إلى حالة وجدانية اخرى وهو يطالع الوجوه التي لفحتها الشمس كما هي شخوص ماركيز وإيزابيل الليندي، إن الأماكن تصنع أبطالها وتؤثر فيهم، ولكل منها سمته الخاص، ولا يمكن مقارنة أمكنة ديستويفسكي أو ماركيز بأخرى عربية أو مطابقة لوحات يغلب عليها الظل بأخرى ناصعة تخرج منها الوجوه المتطلعة الى الحياة عبر ألوان ألقة ومستمدة من بيئة اخرى.وانطلاقاً من تلك الخصوصية تعتبر الإمارات بيئة مكانية معينة للابداع، تتجاور الأمكنة بداخلها ليسرد كل منها أسراره الخصبة وأساطيره الذاتية وواقعه اليومي المتسارع، فالبيئة الساحلية والبحرية تتقاطع مع بنايات تقليدية وأبراج شاهقة، وتقع الصحراء بلونها الأصفر خلف كل هذا لتعطي العين امتداداً لا نهائياً نحو المجهول.وعندما يسير الانسان في شوارع الامارات يلاحظ التنوع المدهش الذي يضفي على المكان تفاصيل ربما لا توجد في مكان آخر تدفع بالعين الراصدة الى تتبع التجليات المعبرة عن ذلك التنوع بدءاً من الملابس ومروراً بالمطاعم وليس انتهاء بلغات متعددة، وتنتج هذه الحالة بُعداً تشكيلياً يستجيب له المبدع من دون كبير عناء خاصة ذلك المبدع الوافد والقادم الى البلاد محملاً بوعي مكاني آخر ورؤية ذهنية مغايرة وبالتالي سيختلف تفاعله مع المكان ورؤيته له عن المبدع الإماراتي.يطرح وعي المبدع المقيم بالمكان اسئلة عدة تتعلق بشعوره بالمكان الجديد وانطباعه الأول عنه وكيفية التعاطي معه ومدي توظيفه لجماليات المكان في النصوص الابداعية، وللاقتراب من تقديم اجابات عن هذه الاسئلة قمنا بإجراء هذا التحقيق مع مجموعة مبدعين عرب يقيمون في الإمارات.ويربط الناقد والقاص المصري عبدالفتاح صبري بين المكان والحياة اليومية بكل تفاصليها، فالمكان بالدرجة الأولى معايشة مع واقع وقيم وعادات وتقاليد، المكان هو الحياة بكل تفاصيلها ووجودها المادي والمعنوي ولا يمكن النظر إليه كنص إبداعي مستقل. وبالتالي فللمكان أثره الواضح على السلوك والسمت العام للشخصية الانسانية في حراكها المتفاعل باتجاه حيويتها، كذلك يؤكد المكان حدود الشخصية عبر عوامل وشروط تتفاعل مع الانسان القاطن له أو المار عليه، من هذا المدخل نرى اثر المكان علي العملية الابداعية ونجد ان الأديب او التشكيلي لا بد أن يتأثر عمله بسمات المكان وظروفه وقيمه.ويقول الشاعر السوري علي كنعان: أمضيت 3 سنوات في اليابان أدرس اللغة العربية بجامعة طوكيو، وعندما أتيحت لي الفرصة للمجيء الى الإمارات كنت أتصور أنني قادم الى الصحراء ولكنني وجدت مزيجاً رائعاً من المساحات الخضراء والأبنية الأسمنتية ربما بصورة لا توجد في مدينة قديمة ورائعة كدمشق. المفاجأة الأخرى التي وجدها كنعان تمثلت في ذلك التنوع الفريد الموجود في الامارات، هناك العديد من الجنسيات والملاحظ أنها تعامل على قدم المساواة، يقول: في اليابان وجدت أبجدية لكتابة الاسماء اليابانية وأخرى لكتابة الاسماء الأجنبية، هنا نتعامل مع الاسم كدال على الهوية ولا نقوم بإقصائه من اللغة ولا يقتصر الأمر على الأبجدية فقط وانما في تعامل دوائر الدولة المختلفة مع الوافدين والمقيمين على أراضيها وينتمون الى أكثر من مائة جنسية.ويسترسل كنعان في الحديث عن إحساسه الأول بالإمارات قائلاً: عشت في مدن قديمة كبغداد، دمشق، القاهرة، بيروت، أماكن يمتزج فيها القديم بالحديث وربما تشعر بالتاريخ يحيط بك من كافة الجهات.. الشوارع والأزقة تنطق بحكاياتها وكثيراً ما تتحول الحياة الى منظومة عبثية نتيجة للزحام والفوضى المرورية. هنا، وفي الإمارات وجدت النظام في كل شيء وشعرت بالاعجاب وأخذتني النهضة الحضارية في إمارات كأبوظبي والشارقة ودبي.عن الألفة والقلقيتجسد وعي الانسان بالعالم من خلال وطنه والذي تشكل تفاصيله أركان العالم الأربعة، إن نمنمات صغيرة يراها الانسان يومياً ويتفاعل معها ربما بلامبالاة تشكل المخزون الأكبر للذاكرة المرتحلة والتي يحملها الانسان معه الى المكان الجديد، ومن هنا ينشأ الشعور بالحنين الى الأمكنة القديمة، وعدم الألفة وربما صعوبة في التكيف بما يخلق حالة دائمة من القلق والحنين الى أمكنة النشأة الأولى.الحالة السابقة يعبر عنها التشكيلي السوري بسيم الريس بقوله أحمل مدينتي بداخلي يتحدث الريس عن دمشق تلك المدينة العتيقة، بشوارعها القديمة وبيوتها المتلاصقة وجدرانها المحملة ببقايا تاريخ وتجارب لا يمكن خروجها بسهولة من الذاكرة، ولذلك سيتسبب المكان الجديد في شعوره بالصدمة الحضارية التي تجعله في حالة من الحنين الدائم والمستمر تدفعه الى القول أنا هنا منذ 8 سنوات ومازلت أشعر بجاذبية مغناطيسية للمكان الذي نشأت فيه، جسدي موصول بموطني مثل الطيور المهاجرة. الإحساس نفسه شعرت به الروائية الفلسطينية رضا الأشقر منذ 25 عاماً عندما جاءت الى الإمارات، تقول الأشقر: شعرت بالحنين عندما جئت الى هنا، دائماً ما كنت أتذكر عائلتي ووجدت مجتمعاً جديداً وصعوبة في الاندماج، فكرت كثيراً في العودة ولكن في احاديث مع آخرين وجدت تجارب مشابهة تمر بكل مغترب جديد، هناك العديد من الأصدقاء الذين احاطوني بالاهتمام والرعاية وأعطوني القدرة على التعاطي مع المكان الجديد، بعد فترة انتابني شعور أشبه ما يكون بفكرة فيلم الحدود لدريد لحام وانتابني سؤال الهوية.. من أنا؟ وأين أقيم؟ ومع مرور الوقت بدأت أتكيف مع البيئة الجديدة وأدركها بعين أخرى.. عين المبدع الذي يتطلع الى التعبير عن المكان الذي يقطنه.في عام 1972 جاء الشاعر الفلسطيني نصر بدوان الى الإمارات محملاً بصورة ذهنية جعلته يتخيل الامارات بلداً صحراوياً، المفاجأة التي حدثت له دفعته لكي يقول: البيئة في الامارات لا تشعر الانسان بأي غربة، الأماكن في ذلك الوقت اتسمت بالهدوء والسكينة كانت المساكن عبارة عن تجمعات بسيطة تتكون من ثلاثة طوابق تحمل الروح العربية في أصالتها، السيارات قديمة وقليلة، لم تكن هناك أية تعقيدات معاصرة وأذاب احتكاكي الأولي بالفلسطينيين الموجودين هنا مشاعر الغربة التي تنتاب أي مهاجر من أرضه. بعد فترة بدأت في العمل، كان البلد يتطلع الى البناء والنهضة وبالتالي لم يترك العمل الدائم والمستمر الفرصة للانسان لكي يعاني أحاسيس الغربة والفقد، بالطبع كانت هناك فترة في البداية عانيت خلالها الشعور المتواصل بالحنين ولم يلبث ان تحول فيما بعد الى ألفة غير عادية مع المكان ومفرداته.وعن الشعور المضاد بالمكان ذلك الشعور الذي يشعر الانسان بالألفة منذ اللقاء الأول يتحدث التشكيلي السوري سهيل بدور قائلاً: منذ 20 عاماً وهناك ألفة غير طبيعية مع المكان، عندما أتيت الى الامارات وجدت بلداً يستعد للانطلاق، وتجمع مفرداته بين الاصالة والمعاصرة ويتطلع نحو قضايا تتكامل في ما بينها لتشكل نسيجاً يترك للمبدع فرصة لكي يشعر بالاغتراب.ويقول الشاعر العراقي قاسم سعودي: حملت بغداد معي دائماً الى الخارج ووجدتها في الشارقة، الشوارع متشابهة وأتمثل القول المأثور المكان بناسه. الوجوه التي أراها في الشارقة لا تدفع الى الشعور بالغربة وعلى عكس الجميع أشعر بأن هناك وراء جماليات المكان الحداثية بساطة يندر وجودها في مكان آخر، لا شك ان أحساسي بافتقاد بغداد عظيم، وأحياناً ما تنشط ذاكرتي ولكن روح الشاعر هي ما يتبقى له في النهاية، فأجدني مرة اخرى في الشارقة بين ناسها وعبر شوارعها تتألق الروح وتبحث عن إبداعها الذاتي والمميز وتبقى بغداد في خلفية المشهد.التعرف إلى المكانيتحول المكان بمرور الزمن الى بعد جمالي من أبعاد النص السري، لما يمنحه من امكانية الغوص في أعماق البنية الخفية لنص ورصد تفاعلاته ووعي المبدع بزواياه وكيفية التعاطي مع مكوناته الظاهرة والتي يدركها الانسان العادي او تلك التي يبحث عنها المبدع عبر تجاربه وأدواته.ويقول عبدالفتاح صبري في توصيف تجربته الابداعية: بالنسبة الى تجربتي الابداعية بدا أثر المكان واضحاً في روايتين صراخ التداعي والغربان لا تختفي ابداً حيث نرى النص السردي يركز على الأماكن والأحداث الجارية فيها وترى ذلك أيضاً في بعض القصص الأخرى حيث حاولت التعبير عن الأماكن في تداخلها بالشخصيات مستلهماً التراث والبيئة الاماراتية الحديثة للتعبير عن بعض الاشكاليات المجتمعية، وسنرى الأثر غير المباشر والناتج عن قلق المبدع المرتكز على تبدلات الأمكنة ونوازعه المشتتة بين مكان أول وآخر ثان أو مكان نشأ فيه وآخر رحل إليه، لذلك اعتقد ان معظم كتابات الوافدين مشبعة بشعور متأرجح بين الآن والقادم، هناك نوازع حقيقية باتجاه مكان آخر يهفو المبدع إليه دون افصاح وكثير من كتاباتي تتوسل هذه اليتمة المتأثرة بوصفية الأمكنة في تجربة الحياة الموزعة على عدة أماكن، اتضح ذلك في مجموعتي القصصية الأولى صحوة الجماجم والحزن وترسخ اكثر في مجموعتي الثانية العريان، فالمكان لا بد أن يكون حضوره قوياً في عمق الابداع شاء المبدع أم أبى، أدرك أو لم يدرك، لأن المكان يعيد صياغة الانسان ويؤثر جلياً في الفكر والقيم والسلوك.تحولات متسارعةإن التحولات المادية والبنيوية المتسارعة التي شهدتها الامارات خلال العقود الماضية أدت الى تغيرات ثقافية وسلوكية وفكرية عديدة، البعض يرصدها في إطار تجاور الحداثة مع التراث، وآخرون يرجعون بالظاهرة الى العولمة وإرهاصاتها العديدة والمتنوعة هذه التحولات اصبحت واقعاً ملموساً يدركه كل فرد في الإمارات.يقول عزت عمر: لقد شكلت التحولات التي تشهدها الامارات صدمة كبيرة بالنسبة لي تماماً كما حدث مع أبناء البلد، هذه الصدمة دفعتني الى التفكير فيما ستفعله بنا العولمة، التي وصفها أحد الاصدقاء الكتاب بالقطار الذي لا يتوقف ويحمل معه مفاجآت كبيرة ما زلنا في انتظارها، ما يهمني الآن وهنا يتمثل في رصد التغير البنيوي العميق وكيف يمكن ان أعبر عن مختلف تجلياته الثقافية والحضارية وأثرها في ادراك الانسان لذاته وللمجتمع من حوله. وقد عبرت عن ذلك في كتاب سردي عن المكان وأهله، وعلى الرغم من إقامتي في الامارات والذي يقترب من العقدين إلا أنني ومنذ اللحظة الأولى لم أشعر بالاغتراب ولم أعش التناقض المعروف ما بين هنا وهناك، وهو الأمر الذي انعكس بالايجاب على ابداعي، فقمت بتأليف ثلاث عشرة رواية تستوحي أحداثها وشخوصها وأماكنها من بيئة الامارات، بل ان ثلاث روايات جرت أحداثها في أبوظبي والشارقة ودبي، بالاضافة الى احدى مدن القصص القصيرة التي تتجاور فيها بيئة الامارات البحرية والبرية.ومن متابعتي كناقد للابداع الاماراتي كثيراً ما أرصد أثر المكان أو المدينة الاماراتية على وعي المبدع المحلي حيث تتبعت مفعول المتغيرات الاقتصادية في التجمعات السكانية الاولى وانفتح كتابي مرايا البحر على المدينة الجديدة والتي ربما تتحول الى مكان معاد ويعبر في الوقت ذاته عن الاغتراب الداخلي لدى الشخوص والأبطال.من الشعور بالصدمة الى الاحساس بالقلق تلك الحالة يعبر عنها بسيم الريس والذي يعاني القلق وعدم الثبات التي ربما تدفع الى الابداع او الهروب الى الذات والتقوقع حولها يقول الريس: في أعقاب الاغتراب يأتي القلق الناتج عن التغير اليومي في البيئة المكانية المحيطة، أحياناً أشعر أنني بلا ملجأ أو جدار لأستند إليه، ربما أفتش في ذاتي او أبحث في الخارج عن كائنات منفتحة على الآخرين، وفي أحيان اخرى أنتشي بالقلق وأراه دافعاً للابداع ولكنني دائماً أعيش حالة الاختلاف عن الآخرين وابصرهم بعين الفنان والتي ترصد ذلك المزيج الحضاري المدهش والفريد في المكان، فتحاول ان تعبر عنه عبر فسيفساءات لونية وخامات متباينة تستمد فاعليتها من المكان وفضاءاته المتنوعة.جماليات مفتوحةالجمال في البيئة الإماراتية يتكشف عن سحر خاص، تتنوع مدارات الجمال والتي يجدها المبدع في الثقافة الإماراتية بأساطيرها التراثية التي صاغها الأجداد عن حكايات بحرية تتقاطع وتتوازن وربما تتداخل مع سحر ألف ليلة وليلة، وفي احيان اخرى يبصر المبدع الجمال في البيئة المكانية المتنوعة بما ينعكس بدوره على الانسان الإماراتي ويؤثر في منظومته المعرفية والقيمية، من هذا المنطلق تقول رضا الأشقر: تعطيني الشمس المشرقة دائماً الصفاء وتشكل بيئة متفردة تنعكس على وجوه البشر فنجد البهجة والتطلع الى آفاق جديدة في الحياة، حالة الصفاء تلك تدفع المبدع للسؤال عن الفطرة والبراءة التي يعيشها الانسان هنا، ولعل هذا السؤال مثّل هاجساً طويلاً بالنسبة لي من أين تأتي كل هذه الفطرة والوضوح والصدق في القول وظللت أبحث عن اجابات متعددة، فالانسان الفطري يجلس على الرمال ويتطلع الى الصحراء ويعيش حالة وجدانية مشابهة للشاعر العربي القديم، لقد عشت تلك المنظومة الحياتية عندما أتيت الى هنا والآن أعاصر المدنية الحديثة بمفرداتها المختلفة، التكنولوجيا باتت تستلب الانسان وتشعره باغتراب مركب، مرة بسبب مفعولها اليومي المعاش والتي نجد أنفسنا في ورطة حياتية اذا حاولنا رفضه او التمرد عليه، ومرة اخرى لشعورنا باللهاث وراء التقدم العلمي والتكنولوجي الحادث في العالم المتقدم، بالاضافة الى تفاصيل حياتية اصبحنا لا نتصور الوجود من دونها، نحن الآن نعيش في شقق فاخرة داخل بنايات شاهقة وتبدو هذه الأحوال كالقشرة الخارجية التي تحيط بأصالة تستند الى مخزون متراكم من الأصالة الموجودة في كل مكان.وتتابع الأشقر قائلة: إن تنوع البيئة جمالياً يعطي اثراء للشخصية خاصة عندما يتمكن المبدع من ادواته الفنية ويعبر عن تلك الشخصية المتأثرة بمئات الأسرار المخبوءة في الصحراء والبحر وحكايات الصيادين وآلاف البشر الذين عاشوا تجارب لا تنتهي، كل هذا يشكل الكنز الدفين والذي لا بد ان يتفاعل معه المبدع. وتتمنى الأشقر العودة الى بساطة البيئة الصحراوية والبدوية واستلهام تراثها المسكوت عنه المتمثل في أصالة عربية تكشف عن نفسها عبر منظومة تيمية تركز على الشجاعة والإقدام وأخرى معرفية ربما لا يعلم عنها المثقف المعاصر إلا القليل النادر.أما سهيل بدور فيقول: الشمس المشرقة دائماً وابداً في سماء الامارات دفعتني الى استخدام الألوان الناصعة، إن سقوط أشعة الشمس على الأبنية القديمة خاصة تلك القريبة من البحر يخلق حالة لونية لا يدركها الا التشكيلي والذي تقوم حياته في الأساس على الوعي بالأشياء عبر مفردات الألوان وتفاعلها مع مكونات العالم المختلفة، تلك الحالة اللونية سنجدها أيضاً في الزخم الانساني في شوارع الامارات، فكما تفصح الملابس عن ألوانها فاللأطعمة أيضاً نفس السمة.. لقد عشت عوالم متعددة في الامارات لكل منها دهشته الخاصة ولكنها في النهاية تشترك في قواسم انسانية بسيطة يعيشها كل البشر.وبخلاف الشمس المشرقة والبنايات القديمة يركز نصر بدوان على المناطق الخضراء والتي تفاعل معها كمفردة جمالية عندما جاء الى الإمارات، يقول بدوان: عندما جئت الى أبوظبي فوجئت بمدينة العين، اللون الأخضر في كل مكان وأحسست بناء على خلفية خاطئة أنها واحة تقع في وسط الصحراء، ولكنني وجدت الخضرة أيضاً في دبي واستمتعت بمزارع النخيل الممتدة عبر مساحات واسعة وفي أماكن شتى، تحول فعل الانبهار الى حالة تأملية وعين باحثة عن الجمال في أشياء اخرى كالكثبان الرملية والتي تختلف تشكيلاتها هنا عن أي مكان آخر ووجدت مفردات عديدة تفاعلت معها دون أدنى قصد او تخطيط مسبق، فلا بد ان يؤثر مشهد الغروب اثناء الجلوس على شاطئ البحر في أي مبدع، بالاضافة الى جماليات أخرى بديعة اثرت في تكويني الوجداني وجدتها في مدينة الشيخ زايد والتي أحرص على زيارتها باستمرار.ويتطرق علي كنعان الى بيئة جمالية اخرى في الامارات دفعته كما يقول ليس الى الابداع وإنما الى التكيف ايضاً حيث يقول: أعيش على شاطئ الخليج وفي منطقة مدارية مختلفة عن سوريا وبمرور الوقت أصبحت أحب الدفء، مما دفعني خلال السنوات العشر الماضية الى البقاء في الإمارات وعدم مغادرتها الا من خلال رحلات قليلة وبخلاف الكثيرين وجدت نفسي متآلفاً مع المناخ حتى عندما يعتبره آخرون قيداً على الحركة والنشاط ونظراً لطول إقامتي بجوار البحر بحثت عن أسراره الخبيئة والتي نادراً ما يتفاعل المبدع معها واكتشفت تراثاً ثميناً لا نعرفه في مراكز الثقافة العربية التقليدية في بيروت ودمشق وبغداد والقاهرة.. ربما سيؤدي الكشف عنه الى وعي المركز بأطرافه.ويتابع كنعان قائلاً: لم أعاصر مهنة الغوص والبحث عن اللؤلؤ، ولكنني اكتشفت ثقافة كاملة وراء هذه المهنة حيث كان الغوص للبحث عن اللؤلؤ المصدر الرئيسي للرزق، ولهذا نمت هذه المهنة وصار لها نظمها وقوانينها التي تحكمها، فمالك السفينة هو أحد التجار الكبار وكانت العادة ان يعطي الغواص مبلغاً من المال قبل انطلاق الرحلة والتي تستمر لمدة تقارب من الأربعة أشهر خلال فصل الصيف وللسفينة عالمها الخاص ومسمياتها المختلفة وأنواعها المتنوعة ورجالها متعددو الوظائف مما أنتج تجارة اللؤلؤ الشهيرة والتي دارت حولها العديد من الاساطير وكادت تنسى الآن، ومن جانب آخر سنجد تراثاً شفوياً لحكايات البحر لا بد ان نعمل على توثيقه وهذا الاهتمام بجمالية البيئة الساحلية دفعني الى تحرير 10 رحلات تراثية تعود الى المنطقة بالاتفاق مع إحدى دور النشر العربية، ولم يقتصر تفاعلي مع المكان على تلك البيئة فحسب، بل وجدتني متورطاً في جماليات الشعر النبطي ربما لأنني ولدت بالقرب من البادية السورية واستطيع تذوق مثل هذه النوعية من الأشعار، وكأي مثقف لا استطيع الانفعال بكل ما هو تراثي وإنما تعاطيت ايضاً مع النهضة الحضارية التي تشهدها الامارات في مدينة كأبوظبي أشعر كأنني انتقلت الى احدى العواصم العالمية، وأعتقد أنني استطعت خلال عشر سنوات ان اتفاعل مع المعطيات السابقة عبر ثلاثة دواوين شعرية يلمح فيها القارئ وعي الشاعر بالمكان وتأثره بجماليات عدة تتوزع بين التراث الأصيل والحياة العصرية الحديثة.الوطن الآخرهل يمكن ان يتحول شعور المبدع الوافد بالمكان وجمالياته الى علاقة حميمية تخلق من الأرض الجديدة وطناً آخر؟ سؤال يطرح نفسه بقوة عبر رصد تلك الجدلية بين الانسان والأرض خاصة وأن تلك الاخيرة كثيراً ما تتمظهر في رموز حميمية تتشارك فيها العديد من الحضارات القديمة لا شك ان أحساسها بالفقد كان عظيماً هكذا يشخص قاسم سعودي حالته الوجدانية التي عايشها بعد سقوط بغداد ويتابع قائلاً: للمبدع ذاكرة خاصة تتسم بالنشاط والقدرة على تسجيل اشياء ربما تمر بلامبالاة امام الانسان العادي، شعوري بالوطن الأم دفعني لاخراج تلك الذاكرة على شكل قصائد او مدونات نفسية ووجدتني هنا في الشارقة وبعد فترة من الاقامة أتنفس العقيدة العربية.في البداية بحثت عن بغداد وجدتها في سوق البنفسج وجماليات اخرى في الشارقة، توقفت امام الابنية الاسمنتية وشعرت بغربة شديدة الوطأة دفعتني للالتصاق بالبحر واستلهام العديد من اللقطات الشعرية المستوحاة من تدافع امواجه وبمرور الوقت شعرت بأهمية المكان وعبر المؤسسات الثقافية في الشارقة والمنظمة بشكل جيد وجدت وطناً آخر وما بين أحزان البحث وفرحة الاكتشاف اعتقد انني اصبحت مدركاً لاحداثيات المكان وجمالياته المتعددة.إن تجربة سعودي والتي تقتصر على خمس سنوات ستختلف بالتأكيد عن تجربة علي كنعان والتي بدأت في مدينة الشارقة منذ عام 1975 خلال تلك الفترة تحولت الشارقة الى الوطن الأم في وعي عبدالكريم السيد والذي يقول: أشعر بارتباط حميمي مع الشارقة بكل مكوناتها: ترابها وبيوتها، بحرها وشوارعها التي عاصرت توسعها، بيوتها التي كانت متناثرة أفقياً لتصبح ممتدة عمودياً، الألوان المتعددة والناتجة عن امتزاج زرقة البحر بخضرة الاشجار، كل هذا شكل سمفونية لونية تقتحم القلب مباشرة بإحساس داخلي لا يحتاج الى رؤية بصرية مما دفعني لأرسم الشارقة بكل حرص وكأنني أخاف عليها وعلى نفسي رسمت بيوتها القديمة بالألوان المائية وأقمت معرضاً للوحاتي عام 1990 تحت عنوان رسالة حب الى الشارقة ضم حوالي اربعين عملاً حاولت أن أعكس فيها حبي وارتباطي بالمكان عبر شفافية الألوان المائية وغنائيتها.ويتابع السيد حديثه قائلاً: مما جعلني أشعر بالشارقة كوطن لي تكريم صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة عبر منحي مرسماً في بيت الشامسي وتفاعلي الدائم مع رواق الشارقة للفنون الذي تشرف عليه ادارة الفنون في دائرة الثقافة والاعلام في الشارقة وهو صرح حضاري لا يوجد مثله في الكثير من الاقطار العربية حيث يحتضن الصفوة من الفنانين التشكيليين سواء من المواطنين أو العرب، ولقد أصبح يمتلك سمعة في مجال الفنون البصرية وصلت الى انحاء عدة في العالم ويستقطب العديد من الفنانين من مختلف الجنسيات والمدارس الفنية لاقامة معارضهم في صالاته.وهناك تمتزج الحضارات والثقافات المتعددة في لقاء فني تشكيلي تتنوع بداخله الاساليب ولكنها تلتقي في بؤرة الابداع وتتوحد من أجل هدف واحد يسعى الى الارتقاء بالتشكيل والبعد عن الادعاء والتبعية التي لا تؤدي الى شيء، لكل هذه العوامل أعتقد ان تجربتي تزايدت يوماً بعد يوم من خلال احتكاكي المتواصل بالتجارب الفنية المحلية والعربية والدولية، وبخلاف الاستفادة من التجارب الابداعية اكتسبت اخرى حياتية توصلت من خلالها الى الاقتناع بأنني لو كنت في مكان آخر لاختلفت تجربتي كلياً.طاقة إبداعيةذاكرة المكان تنعكس على الانسان لتولد ذاكرة أخرى تنتمي الى المكان الجديد أو تكون امتداداً لآخر قديم، والذاكرتان في كلا الحالين هما حصيلة تجربة انسانية مكانية تطرح العديد من القضايا التي تقيمها وتحاول التفاعل معها مما يتيح للانسان أن يخلق حواراً فعالاً لدوره في المجتمع، هذا بالنسبة للانسان العادي، أما بالنسبة للفنان، فذاكرته تختلف وارتباطها بالمكان اكثر وضوحاً وأكثر ثراء نتيجة لما يحمله الفنان من طاقة إبداعية يستمدها من التجارب الانسانية المرتبطة بالمجتمع ومكان تواجده فيه.الاحتفاء بالضيفيعتمد أهل البيئة الصحراوية البدوية في معيشتهم على رعي الإبل وتربيتها وتأجيرها لنقل المؤن والبضائع ويسكن أهل هذه البيئة ضمن جماعات وتسمى كل جماعة فريج ويقال: فريج فلان بن فلان ولعبت هذه الجماعات الدور الابرز في الحفاظ على الاشجار المعمرة التي كانت تعد من المعالم البارزة لكل منطقة فبقي لدينا هذا الإرث المميز من تلك الخضرة التي تراها العين متناثرة في بقاع متعددة في الصحراء، ومن العادات الاخرى الجميلة لأهل الصحراء الاحتفاء بالضيف سواء أكان فرداً أم جماعة حيث يتركون له وقتاً للراحة قبل ان يسألوه عن أخباره وماذا يريد؟ ملامح التسامحيكون الاحساس بالمكان مرهقاً في مواجهة أرض وكأنها بكر يتلمس فيها المبدع خطوات التعرف والنماذج والمقارنة وبعد الاستقرار أو طول المقام تنشأ علاقة حميمية دافئة مع الأشياء تتكشف عن إشارات من العطاء والدفء والاحتضان خاصة في ظل وجود ملامح التسامح وتجارب الوحدة الحقيقية. المشهد في الامارات يتضمن كل الأطياف العربية ويشكل مزيجاً فريداً، وسيعطي الوضع المتسامح وسقف الحرية المتاح القدرة على الحركة والتعبير عن المكان والمشاركة الايجابية في المشهد الثقافي والذي يسوده التعاون مع الآخرين في آليات حراك متعددة ومعبرة عن نفسها من خلال جهود مؤسسات الدولة والمجتمع المدني كاتحاد كتاب وأدباء الامارات والنادي الثقافي العربي وغيرهما. يمر المبدع في علاقته مع المكان بثلاث مراحل: انتقاله الجسدي الى مكان جديد، التأثر بالمكان والتعاطي معه والاندماج في مؤسساته الابداعية، تذوق جماليات المكان والتعبير عنه.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"