محسن إبراهيم.. انعطافة أخيرة

02:39 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي


برحيل محسن إبراهيم يخسر اليسار العربي رمزاً كبيراً وتاريخياً من رموزه، والأمل أن يتم الإفراج عن أوراقه وكتاباته في الآونة الأخيرة.

سال حبر غزير في نعي وتأبين الشخصية العربية البارزة محسن إبراهيم، الذي رحل عن دنيانا مساء الأربعاء الماضي 3 يونيو / حزيران الجاري عن 85 عاماً. والحال أن الرجل من موقعه في لبنان، قد واكب التحولات العربية، وشارك سياسياً فيها من موقعه قيادياً في حركة القوميين العرب في كل من مصر واليمن وسوريا والعراق وفلسطين، إضافة إلى موطنه لبنان. وقد تحول منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي إلى اليسار، وذلك ضمن موجة عربية وعالمية، وحاز موقعاً مستقلاً في الخريطة السياسية بعيداً عن الالتحاق بالاتحاد السوفييتي على الرغم من أن مواقفه كانت قريبة منه.

وقد شكلت الحرب الأهلية اللبنانية / الإقليمية محنة قاسية لشعب لبنان، وقد اندفع الرجل للمشاركة في الحرب كما هو حال أغلبية الأحزاب السياسية بيمينها ويسارها، غير أنه مع عام 1982 خرج من أتون تلك الحرب، وركز جهوده مع رفيقه جورج حاوي على إطلاق جبهة المقاومة الوطنية في لبنان، فيما كانت بيروت ومعظم لبنان آنذاك بعد خروج قوات المقاومة الفلسطينية تنوء تحت سطوة الاحتلال «الإسرائيلي». ومع التفرغ لخيار مقاومة الاحتلال خرج محسن إبراهيم من الصراعات الداخلية في بلده. وفي مرحلة لاحقة أبدى الرجل نقداً ذاتياً للاندفاع في الحرب الأهلية التي حمّلت لبنان واللبنانيين فوق ما يحتملون.

وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الشيوعية، عكف الرجل على مراجعة طويلة، وانكفأ تنظيمه «منظمة العمل الشيوعي»، وأصدر حينذاك كتابه «في الاشتراكية» الذي أعلن فيه دوام الالتزام بالخط الاشتراكي، ولكن دونما تقيد تام بالماركسية، وذلك بعدما أثبتته الحياة من فشل الأنظمة الشيوعية، وثورة الشعوب عليها. لكن الانكفاء الطويل لمنظمته لنحو عشرين عاماً ابتداء من عام 1995 حال دون أن تتجلى هذه المراجعة في هوية منظمته واسمها. على أن التنظيم رفع منذ نحو ثلاث سنوات شعاره «نحو حزب علماني يساري». ولم يمهل الموت الرجل، إذ لم يتيسر انعقاد مؤتمر خامس للمنظمة يرسي التحول الجديد. كما لعبت

الاحتجاجات الشعبية الداخلية، وتفشي وباء كورونا دون الوفاء بهذا الاستحقاق.

وبينما تمت المواظبة على تأييد الاحتجاجات الشعبية أو ثورة 17 تشرين حسب مسماها المحلي، إلا أن الرجل ومعه تنظيمه ظل يشدد على خيار العلمانية لمواجهة الواقع الطائفي في لبنان الذي يسد الأبواب أمام الإصلاح والتغيير، ويمثل بيئة مواتية لانتشار الفساد واستفحاله. كما شنت منظمته حملة ضد الأصوليات والفكر الظلامي بمختلف مدارسه ومنابته

وراياته، وفاء لخيار العلمانية التي تجمع بين التحرر الفكري والعدالة الاجتماعية من منظور يساري اشتراكي. وهذه هي الإضافة الأخيرة للراحل الكبير التي كان منتظراً لها أن تتبلور في صيف هذا العام، وذلك كجزء من تحولات اليسار، واستجابته لتحديات الواقع والتحرر من ربقة الأيديولوجيات الكلية.

وواقع الحال أن ما كان جاذباً في شخصية الراحل هو قابليته للتحول واستيعاب المستجدات والابتعاد عن اللغة الحزبية «الخشبية»، مع التمسك بمبادئه التحررية واستقلالية تياره، وهو ما أثمر، على سبيل المثال، في الرفقة السياسية التي جمعته بالسياسي البارز جورج حاوي، حتى شكلا ثنائياً منذ عام 1975 حتى أواخر ثمانينات القرن الماضي، وأطلقا معاً نداء المقاومة الوطنية، وبيانها الأول في سبتمبر 1982، إذ إن حاوي نفسه عكف على مراجعة خيارات الحزب الذي يقوده باتجاه الانفتاح أكثر على العالم العربي وعلى الخيار القومي، والتحرر من الوصاية السوفييتية على حركات اليسار. وتمتع إبراهيم إلى ذلك على الرغم من رقةّ بُنيته الجسمانية بكاريزما وحضور مُشع مكّناه من نسج علاقات شخصية وطيدة مع قادة من أمثال جمال عبدالناصر، وكمال جنبلاط، وياسر عرفات، وحافظ الأسد، وقادة اليمن الجنوبي (إذ كان بمنزلة مرجعية لهم).

وبرحيل محسن إبراهيم يخسر اليسار العربي رمزاً كبيراً وتاريخياً من رموزه، والأمل أن يتم الإفراج عن أوراقه وكتاباته في الآونة الأخيرة، بما يسعف التقدميين العرب في التعرف إلى تجربة ثرية مديدة، وكذلك آخر كشوفه وتحليلاته في ما ينتظر التقدميين العرب من مهام في هذه المرحلة، لوقف مختلف أشكال التدخلات الأجنبية في الإقليم ونشر ثقافة تنويرية تحررية في القلب منها الوفاء بمقتضيات العدالة الاجتماعية الناجزة عبر تنمية شاملة تراعي مصالح الفئات الأضعف، ومناوأة مختلف مظاهر التسلط، والتفاعل بين سائر التيارات المتحررة بعيداً عن سياسة الاستحواذ واحتكار الصواب السياسي، والوفاء لشعب فلسطين ومناصرته في كفاحه لانتزاع حقوقه المهدورة في الأرض والحرية والاستقلال.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"