عبقرية الفاروق وأزمة «الرمادة»

ورِقٌ ودين
02:33 صباحا
قراءة 3 دقائق
د.إبراهيم علي المنصوري *

بلغت الشدة والقحط في الناس مبلغاً عظيماً، هلكت مواشيهم، واشتد جوعهم، حتى أكلوا ورق الشجر، والميْتة. وكان ذلك على عهد الفاروق عمر، رضي الله عنه، في عام 18 هجرية، وقد سُمي عام «الرمادة»؛ لأن الأرض اسودت من قلة المطر حتى صار لونها شبيهاً بالرماد. ونزح الناس من البادية إلى المدينة طلباً للنجاة، لاجئين إلى أمير المؤمنين، رضي الله عنه، فلما رأى ما حل بالمسلمين اتخذ قراراً صارماً؛ إذ أقسم ألاّ يأكل سمناً ولا سميناً حتى يُكشَفَ البلاء عن المسلمين، حتى بانَ ذلك على جسده ووجهه، فوَهَنَ عظمه وضعُف، وقرقر بطنه من الجوع وكان حينها على المنبر، فأشار إلى بطنه وقال: قرقر أو لا تقرقر والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين. وقال أيضاً حيث سأله الناس أن يُلينَ طعامه: والله إني أعلم الناس بِنَسِيل العسل، وبِلُبَاب البُر، وبِأجْود اللحم، ولكن أخشى أن أجمع
هذا وهذا، ثم آتي إلى الله، فيقولَ لي: «أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا»، مخافة أن يُحاسَب عن الجَوعى والعطشى ممن استرعاه الله عليهم.
واتخذ عمر، رضي الله عنه، تدابير لتجاوز الأزمة الشديدة، التي أودت بحياة آلاف المسلمين، فابتدأ بخطة طوارئ عاجلة؛ حيث أنفق على المسلمين من بيت المال حتى نفد ما فيه، وقام بكفاية احتياجاتهم الآنية ليُنقذ ما أمكن إنقاذه؛ إذ بلغ عدد المرضى ستين ألفاً، وقد رُوِيَت آثار كثيرة تشير إلى ما أصاب الناس من الجَهْد، وأنهم أكلوا الجرابيع والجرذان من الجوع، وأن الموت انتشر فيهم.
ثم أمر، رضي الله عنه، ببناء معسكرات للاجئين من أهل البادية النازحين من كل جهة والمتضررين من الجفاف والقحط، ووفر فيها احتياجاتهم الأساسية؛ وذلك دعماً لخطة الطوارئ التي بدأها.
وتتالت الإجراءات؛ للتغلب على الأزمة فطلب المدد من وُلاة الأمصار، فكتب إلى عُمَّاله على البلاد الغنية يستغيثهم، فما كان من الولاة إلا أن سارعوا في نجدته، فأرسل عمرو بن العاص من مصر ألف بعيرٍ تحمل الدقيق بَراً، وأرسل عشرين سفينة تحمل الدقيق، والدُّهن، وبعث إليه بخمسة آلاف كساءٍ، ثم أتبعه أبو عبيدة، رضي الله عنه، الذي أرسل من الشام بأربعة آلاف راحلةٍ، كما أرسل معاوية، رضي الله عنه، بثلاثة آلاف بعيرٍ، ووصلت من العراق ألفٌ مثلُها تحمل الدقيق، فضربوا أروع مثال في التعاضد والتراحم وطاعة ولي الأمر، رضي الله عنهم جميعاً.
شكّل الفاروق لجاناً متخصصة كلٌ حسب خبرته لتنظيم تلك القوافل الآتية من الأمصار، وأرسل من يشرف على توزيعها مع دخولها جزيرة العرب، كما أرسل رجالاً بالطَّعام الآتي من مصر من البحر إلى أهل تهامة، لتوزيعه مع المعونات على القبائل في أماكنها، مقدماً نموذجاً يحتذى في حسن الإدارة.
ومن تمام فهمه لمقاصد التشريع أوقف حدّ السرقة حين قال: ما كنتُ قاطعَ يدٍ امتدت لقطعة خبز في عام جف فيه الزرع وأكل الناس أوراق الشجر. كما أخّر الزكاة، وغيرها من إجراءات قدّم بها نموذجاً للقائد الفذّ في إدارة الأزمات. كما دعى المسلمين إلى صلاة الاستسقاء، والتضرع إلى الله؛ ليرفع عن البلاد ما نزل بهم.
والخير لا ينقطع في ولاة أمورنا، فمع انتشار فيروس «كورونا» وما تعرض له العالم اليوم من الضرر، جاءت الكلمة الخالدة لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، إلى كل من يعيش على أرض الإمارات من مواطنين ومقيمين بقوله: «لا تشلون هم» لتعكس شعوراً إنسانياً عالياً سكنت معه نفوسهم وأطمأنت أن الإمارات وطنهم في يُسرهم وعُسرهم.

* أستاذ الاقتصاد والمصارف الإسلامية
المساعد بجامعة الشارقة
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"