لا جمل ولا قعود

03:08 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. يوسف الحسن

رأيت ذات ليلة، كما يرى النائم، أن الشاطر مسعود، قد وصل إلى بيت أبيض مهيب، يقع في شارع اسمه بنسلفانيا في واشنطن، بعد أن ركب إليه، وطوى القارات ليلاً ونهاراً، وقاصداً دعماً ومساندة من رجل يسكن هذا البيت، رجل كثير الخيل والعتاد والجند و«المسيّرات» الطائرة الغدارة.
لما فتح له الباب، دخل قاصداً نحو غرفة بيضاوية فيها مكتب من خشب السنديان، كانت الملكة فكتوريا قد أهدته لسيد هذا البيت، بعد أن أمرت بفكفكة هذا الخشب من غرفة مركب إنجليزي من الأسطول البريطاني، جنح وسط جليد القطب الشمالي وأنقذه بحارة أمريكيون في العام 1854، وبعد خروج هذا المركب من الخدمة في أواخر القرن التاسع عشر.
ولاحظ الشاطر مسعود أن الغرفة ذات نعمة ومهابة، وخدم وحشم، وغلمان على هيئة «جيمس بوند» فيها جلوس وقعود.
وسأل الشاطر مسعود عن صاحب البيت، فقيل له إنه في «بيت الماء»، أي في «الحمَّام»، فأكرموه وأجلسوه على مقعد بجوار المدفأة لزوم التصوير، وأمروا بمن معه ومن صحبه بالخروج إلى مكان آخر في حديقة البيت.
أخذ الشاطر مسعود يتأمل الأحوال، ويقرأ ما هو مكتوب فوق المدفأة: «أدعو الله أن يمنح بركته لهذا البيت، ولجميع الذين سيعيشون فيه، وإن الشخص الذي يحكم البلاد، ويعيش في هذا البيت، لن يكون سوى رجل شريف وحكيم».
سرَّهُ ما قرأ، وابتسم بعد أن كان كثير العبوس والتجهّم، حتى أقبل عليه صاحب البيت، وكان ضخم الجثة أشقر الشعر، ومعه جماعة كثيرة من كهول وشبان، وغيداء كاحل، وحفدة وعسس. سَّلم عليه، وسأله عن أحوال مخيمات اللاجئين السوريين، فأخبره أنه قادم من مخيمات أخرى للاجئين، عمرها أكثر من سبعين عاماً، ثم أحضر صاحب البيت لضيفه أطباق «الهامبورجر» وشراب «الكوكاكولا»، وعضوية مجانية في ملاعب «الجولف» في إسكتلندا وملاهٍ في فلوريدا ولاس فيجاس.
وقال لضيفه: «كُلْ ما حلا لك» وأجاب: «ليس لي به حاجة» فلم يعوده أحد، وفقاً لتقاليد الضيافة المرعية.
ونظر الشاطر مسعود حوله، فحار لكثرة أعوان صاحب البيت، وأدهشته كثرة الأوراق في أيديهم.
وسأله صاحب البيت: «ما أقدمك أيها الشاطر مسعود»، فناوله كتابه المملوء بالقرارات والبيانات الدولية والحقوق الإنسانية.
وبدوره أحال صاحب البيت الكتاب، بدون أن يفضه، إلى شاب وسيم يقف خلفه، والذي قام بدوره بإلقاء الكتاب في سلة القمامة، فطار عقل الشاطر مسعود، وعبس بشدة وهمس غاضباً (يا ابن ...) لكنه فجأة امتلكه الخوف. وما شك أن أعوان صاحب البيت، الذين يشبهون «جيمس بوند» و»رامبو» وأحفاد أحفاد قتلة الهنود الحمر، يريدون القبض عليه، بحجة دخوله البلاد بدون تأشيرة زيارة.
وقام الشاطر مسعود، يوصيهم على أولاده، ثم قدّم رجليه وقال: «هاتوا قيودكم»، فدعي حدّاد البيت فقيّده بعد أن حلف الشاطر مسعود، أنه رجل محسود، ومكذوب عليه من قبل أعوانه وأبناء عمومته، وأنه «لا يُزعج أحداً ولا يُرعب ولا يُرهب»، فرّق قلب صاحب البيت، ونزع عنه قيوده، وفكَّه وأجلسه بجواره، واعتذر إليه، وقال له: سَلْ حوائجك؟ فقال الشاطر مسعود «سرعة رجوعي إلى بلدي، وعدلك واعترافك «الواقعي» بي»، فخلع عليه صاحب البيت، وشاحاً مستعملاً وقال له: اركب الساعة، حتى ترد إلى البيت أو المكتب الذي جئت منه، ولا تقطع أخبارك عنا، فمن توكّل علينا كفيناه، ومن دعانا لبيّناه، ومن سألنا أعطيناه، فلا تأنس بغيرنا، وأن أنت رضيت بما قسمته لك، أرحت بدنك وأهلك، وإن لم ترض بما قسمته لك، فوأساطيلي وأسلحتي ومخابراتي،أصحابك، لأسلَّطن عليك (أبا يائير، زوج سارة الحرامية)، فلا ينالك منه إلا ما ناله ذات يوم المرحوم إياه صاحبك.
قال الشاطر مسعود، وهو يهم بالرحيل: «بحقي عليك كُنْ لي محباً، فبدونك تبطل المصالح، وندوخ الدوخات السبع».
قال صاحب البيت، وهو يلوي شفتيه، ويمطها ويهز حاجبيه: «انظر إلى الطير، تغدو وتروح، ليس معها شيء من أرزاقها، لا تحرث ولا تحصد، ولا تشتغل في تجارة العقارات، والرب يرزقها، فإن زعمت بأنك أكبر معدة من معدة الطير، فإنك غلطان، وإياك والطمع، وإذا لبيت مطلبي فَلَكَ أن تتكئ في مجلسي هذا كيف تشاء، وأن تدخل بلادي من غير تأشيرة حينما تشاء».
قال الشاطر مسعود: «وماذا تأمرني أن أفعل حتى أنال الرضا وأنعم بالقرب»؟ قال صاحب البيت: «استظهر على الزمان بخفة الظهر وقلة الأثواب، وبشهادة «حسن سلوك» من (أبي يائير، زوج سارة الحرامية)، وهذا أفضل وأسرع».
خرج الشاطر مسعود، عابساً متجهماً، وهو يسب ويلعن، بعد أن أساء صاحب البيت الأدب، وطالبه بخلع كل الملابس، وتقبيل يد الإمبراطور المتغطرس المغرور زوج سارة الحرامية.
وقيل إنه يستيقظ كثيراً في الليل من كثرة الكوابيس، ويردد في منامه ما قاله الشاعر:
إن دام هذا السير يا مسعود
لا جمل يبقى ولا قعود

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"