البيوت الزراعية حضارة الأجداد

سكن وسكينة
02:48 صباحا
قراءة 3 دقائق

إعداد: أمل سرور

قطرات الندي تبلل المساحات الشاسعة فتكسوها بالاخضرار، وعجين الخبز يتهادى بين أيدي الجدات، والحطب يزداد اشتعالاً على جمر النار، وصوت «اليازرة» يرن في الأجواء تلك التي يدور حولها «الثور» جاهداً من أجل الحصول على المياه. ومن يتأمل بيوت الأجداد في بيئتهم الزراعية يلحظ، ويرقب صورة الماضي البعيد بكل ما حمله من عناء، ومعاناة، وقسوة، وكفاح، وإصرار، وتحد لكل ما هو مستحيل، وحاضر ينطبق عليه المثل الشهير القائل «إن ما زرعه الآباء يجنيه ويقطف ثماره الأبناء.

«يلا دِقوا خُوتي الحَب، طَحِنوه، عينوه، كلوه صبيان يا بني، يلا دِقوا الحَب».. هكذا كانت الجدات يتغنين بالأغاني القديمة، عندما كنّ يقمن بطحن حب القمح في بيوتهن الزراعية، مع أمهاتهن استعداداً لتخزينه.

وتتعدد أدوات الجدات اللاتي يستخدمن «المِزْفَن»، أو «الدعن»، وهو حزمة من جريد النخل، من أجل تجفيف التمر لعمل «المدلوك» بعد أن يقمن بطحنها، وهرسها، وإضافة بعض من الأعشاب عليها، والتي تُضفي عليها مذاقاً مميزاً. ويبدو أن جريد النخيل حصل على نصيب من الاهتمام والتقدير في بيوت الإماراتيين قديماً، حيث كانت الجدات يقمن بعمل كل مستلزمات منازلهن منه، فقد كن يصنعن منه «الكبسة»، أي القفص المخصص لحفظ الخضراوات والبصل، والأقفاص التي كن ينقلن فيها الدجاج حين الترحال.

حتى أواني الطهي في بيوت الجدات اللاتي ينتمين إلى البيئة الزراعية، تعبر عن طابع الأصالة والموروث القديم، لما تحمله من ذكريات قديمة لا تزال عالقة في نفوس الناس، حيث كانت تخصص لها أسواق شعبية لإنتاجها وبيعها بعد صنعها من مواد مختلفة كالفخار، والمعدن، والخشب، والنحاس الأحمر، والأصفر، لتشمل الكؤوس، والأباريق، والأطباق، والقدور، والصناديق.

ويأتي «الصفر» في مقدمة تلك الأدوات، وهي عبارة عن أوان نحاسية كانت أيضاً تستخدم محلياً لأغراض عدة في المطبخ، وتخصص لها محال في سوق يسمى «الصفارين» خاصة في دبي والشارقة، و«البرمة»، وهي كلمة فصيحة، وكانت تستخدم لتبريد الماء، و «المحماس»، لغرض تحميص القهوة، و«المنخاذ»، ويسمى كذلك «الهاون» الذي يستخدم لطحن الثوم والهيل ومواد أخرى، والقدر وهو وعاء يطبخ فيه الطعام، مثل الأرز.

ولا يمكن لمن عاش في البيئة الزراعية الإماراتية ألا يتذكر «اليازرة»، وهي طريقة شاقة كانت تحتاج إلى مجهود كبير. نظراً لأن آبار المياه في مزارع النخيل الساحلية قليلة العمق نسبياً، لذا فقد طور الأجداد العديد من الطرق الأولية للري فكانت «اليازرة» التي استخدمت في العديد من المجالات، فقد سخرت الطاقة الحيوانية للمساعدة في غمر بساتين النخيل بالماء. وكانت هذه العملية تتألف من هيكل مكون من جذوع أشجار النخيل الذي يتشكل من أربعة قوائم، ويعمل على إسناد عجلة يلقى فوقها حبل يُربط بطرف دلو من الجلد، بينما يسحب الثور الطرف الآخر للحبل لدى قيام إنسان بتمشيته نزولاً، وصعوداً، في الممر المشكل خصيصاً له، ساحباً بذلك الدلو الجلدي بعد امتلائه بالماء من البئر، ليقلبه عند فوهة البئر، مفرغاً منه الماء في خزان صغير كي ينساب من هناك في قنوات تجري عبر مزارع النخيل. والحقيقة أن هذه الطريقة شاقة للغاية للحيوان، وللإنسان، وكان الأنين المعهود عند تشغيل طريقة الري باستخدام الثيران يمثل مشهداً مألوفاً من مشاهد الحياة العامة المعروفة لدى الأجداد في البيئة الزراعية على امتداد ساحل الخليج.

ولم يقف الأمر عن «اليازرة» بل تطور ليستخدم الأجداد «الطوي» الذي كان يعد مصدراً مهماً من مصادر توفير مياه الشرب، وهي الطريقة التي اعتمد فيها الأجداد على المياه الجوفية حيث يتم يسحب الماء من الآبار بواسطة الدلو، أو الغرافة.

ولا شك، فقد عاني الأجداد كثيراً في البيئة الزراعية، وذلك إحساس تتأكد منه ما أن تلقي بنظرك على الأدوات التي لم تكن تفارقهم في بيوتهم، والتي كانوا يستخدمونها بشكل يومي في زراعتهم لأرضهم، وتأتي «المسحاة» في المقدمة، وهي تلك الآلة التي كانوا يشقون بها القنوات المائية ويحفرون بها الآبار، «والمَحش» ليزيلوا به الحشائش، و «الميشار» لقطع الأشجار الكبيرة، وعندما كانوا يريدون نقل الأشجار الضخمة من مكانها مع الإبقاء على الجذور كانوا يستخدمون «العتلة»، بينما «الداس» لقطع الأغصان والفروع، أما المنجل فقد كان مخصصاً لقص الذرة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"