«عليكم بالصدق»

مكارم الأخلاق
03:27 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. رشاد سالم *

الصدق هو ما يطابق الحقيقة والواقع من غير تبديل، ولا زيادة، ولا نقصان، ولولاه لانتزعت ثقة الناس بعضهم من بعض، ولما وصل إليهم شيء من الحقائق في العلوم، والأديان. وليس في الأخلاق خلق أحسن بالإصلاح والنظام من الصدق، ولا أفسد لهما من الكذب، فالصدق رأس الفضائل، وأساس المروءة، من تحلى به كملت صفاته، وسمت أخلاقه، وتحققت معه آماله.
«قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. (المائدة،١١٩)
وقال المصطفى، صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب فإنه يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار».
وقال بعض الحكماء: الكذاب لص، لأن اللص يسرق مالك، والكذاب يسرق عقلك. وقال آخر: الكذب جماع كل شيء شر، وأصل كل ذم، لسوء عواقبه، وخبث نتائجه، لأنه ينتج النميمة، والنميمة تنتج البغضاء، والبغضاء تؤول إلى العداوة، وليس مع العداوة أمن، ولا راحة. وقال: آخر: تحروا الصدق، وإن رأيتم فيه الهلكة فإن فيه النجاة، وتجنبوا الكذب وإن رأيتم فيه النجاة فإن فيه الهلكة.
وقال الشاعر:

عليك بالصدق في كل الأمور ولا

                        تكذب فأقبح ما يزري بك الكذب

وقال آخر:

ما أحسن الصدق في الدنيا لقائله

                       وأقبح الكذب عند الله والناس

حكي عن أحد الأئمة أنه كان مع قافلة لزيارة البيت الحرام، وبينما كانوا يجدّون السير بالصحراء فاجأهم أفراد عصابة، وأخذوا ينهبون من الناس ما وصلت إليه أيديهم، فلما وصلوا إلى هذا الشيخ الجليل سألوه عن الأموال التي معه. احتار الإمام ماذا يقول لهم: أيكذب وينجو بأمواله؟ كيف له هذا وهو الذي لم يعتد الكذب طوال حياته، أم يقول الصدق، وتؤخذ جميع أمواله التي تعب بها، وشقي بجمعها، إنها ثمرة جهده التي انتظرها طويلاً؟ وبينما هو في هذا الصراع الداخلي تذكّر كلام والدته قبيل سفره، وهي تنصحه، وتقول له: عليك بالصدق، وإياك والكذب. وأحس في هذه اللحظة بكلام أمه، كأنه يقع في أذنه لأول مرة..»عليك بالصدق يا ولدي.. عليك بالصدق يا ولدي«.
ومن دون تردد قال للصوص: معي من الأموال كذا، وكذا، فدهش اللصوص لصدقه، فذهبوا به إلى رئيسهم، وأخبروه بما شاهدوا من صدقه، فأعجب به، وأخذ يحاوره، ويسأله عن سبب صدقه، والإمام يقول له: هذا ما أوصانا به الله من فوق سبع سماوات، هذا ما تعلمناه من كلام سيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم، هذا ما يفعله كل عاقل حكيم يريد لنفسه العفة والأمانة.
وبينما الإمام يتكلم، إذا بالقائد يصيح بأفراد عصابته: أعطوا الناس أموالهم، وأشهدوا بأني تبت إلى الله عز وجل، توبة نصوحاً لا عودة بعدها أبداً.
إنه الصدق الذي يهدي إلى الجنة، كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام.
إن من الصفات الضرورية التي يتحلى بها المسلم الصدق. ولا عجب، فالمسلم لا يكذب، ولا ينافق.
عن صفوان بن سليم قال: «قيل يا رسول الله: أيكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم، قيل: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم، قيل: أيكون المؤمن كذاباً؟ قال: لا». رواه مالك.
وعن ابن مسعود: «إن الصدق يهدي إلى البر، وأن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا»، البخاري ومسلم.
والصدق في القول والفعل من شيم النفوس الشريفة، والصادق بين الناس محبوب في حضوره، محترم في غيبته، يفضله المتعاملون على من سواه، ويعظمون قدره، وطوبى للصادقين عند الله، وعند
الناس.»يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ«.(التوبة، ١١٩)
الله يأمرنا هنا بمصاحبة الصادقين لننال الخير العظيم، فكيف إذا كنا من الصادقين؟ ويكفي الصادق فخراً أن الرسول صلى الله عليه وسلم عرف بين قومه بالصدق قبل أن يبلغ الرسالة، فها هم يقولون له عندما سألهم: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقونني؟ قالوا نعم. أنت عندنا غير متهم، وما جربنا عليك كذباً قط، قال: فإني نذيركم بين يدي عذاب شديد.
ومدح الله نبي الله إسماعيل بقوله»وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا». (مريم، ٥٤)
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «كبرت خيانة أن تحدّث أخاك حديثاً هو لك به مصدق، وأنت له به كاذب» رواه الإمام أحمد.
وفي حديث آخر: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان»، البخاري ومسلم.
تأمل أخي: كيف جعل الحديث الأول الكذب خيانة، وجعله في الحديث الثاني نفاقاً، والعياذ بالله، فما أحرى المسلم أن يكون صادقاً في قوله وفي فعله، أي أن تصدق أعماله، وأقواله، وأن يكون ذلك أدبه، وطبعه، وأن يكون الصدق خلقه المعروف به عند الناس، فإذا أخبر بخبر سمعه كان كما سمعه، وإذا تحدث مازحاً كان كما يتحدث جاداً، فالصدق هو الصدق، وأنعم به من خلق حميد.

* مدير الجامعة القاسمية بالشارقة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"