الرفيق الذي لا يملّك

03:10 صباحا
قراءة 3 دقائق
بقلم:عبدالغفار حسين

الاهتمام بالكتب عنوان يدل على الحضارة والتمدن والرقي، ولم أقف حتى الآن على قول قائل إنه يكره الكتب أو يذمها أو يدعو إلى تجنبها، إلا أن يكون هذا طاغية وديكتاتوراً يميل إلى البغي والعدوان، ويخشى أن يعريه الكتاب ويكشف سوءاته للناس. وحتى هذا الطاغية لا يهاجم الكتاب كعمل عظيم من أعمال الفكر الإنساني، وهو بالطبع عاجز عن فهم الكتاب ونقده نقداً علمياً، لكنه يفزع من الكتاب وترعبه رؤيته، ويعتبره عدواً لدوداً! قال أحد أعوان هتلر، زعيم النازية في ألمانيا، وأعتقد أنه وزير داخليته: «إذا ذُكرت الكتب والثقافة أتحسس مسدسي!». وقال قيصر روسيا يصف الكتاب: «إنه شيء جميل، ولكنه في نفس الوقت أقبح من الشيطان».
وقبل هذين الطاغيتين بزمان ابتُلي تاريخنا العربي الإسلامي، وديارنا الإسلامية، ببرابرة طغاة جاهلين من أمثال جنكيز خان، وتيمورلنك، استباحوا هذه الديار في عقر دار الخلافة في بغداد، وامتدت أيديهم إلى المكتبات ودور العلم، فأخذوا نفائسها من تراثنا ورموها في البحر في نهر دجلة. ويقول لنا المؤرخون إن مياه النهر تحولت إلى لون الحبر والمداد من كثرة ما ألقي فيها من الكتب، عشرات الألوف؛ بل مئات الألوف أو يزيد! ومع هذا الطوفان العظيم من البلاء الذي حل بتراثنا الفكري، ها نحن ما زلنا نُفاخر الأمم بما بقي لنا من هذا التراث الذي يجعلنا في مصاف الأمم ذات التراث الثقافي المتميز. ومن يُطالع كتب الفهارس أو البيوجرافيا التي كتبها الأقدمون، كابن النديم وحاجي خليفة في «الفهرست»، و«كشف الظنون في أسماء الكتب والفنون»، سيقف في الواقع على قدميه تعظيماً وتبجيلاً لهذا الكم والكيف من أعمال الفكر التي أورثها إلينا السلف.
وقد خرج من زعماء المسلمين قادة وخلفاء كانوا يعشقون الكتب ويولونها من العناية الشيء الكثير. وأكثر الخلفاء ثقافة واعتناء بالكتب كان المأمون، الخليفة العباسي المشهور، ويروى عن ولعه بالكتب أنه كان يستدعي المترجمين ويطلب منهم ترجمة كتب معينة، من كتب اليونان والفرس إلى العربية، وكان يعطي بعض
هؤلاء المترجمين زنة ما ينقلونه من الكتب إلى العربية نقوداً من الذهب؛ أي أنه يضع الكتاب في كفة ميزان، ويضع الذهب في الكفة الأخرى، ويعطيه للمترجم تشجيعاً له على المضي في الترجمة وإعداد الكتاب! وهذا لعمري شيء لا أعتقد أن زعيماً من زعماء أية أمة قد فعلها قبل هذا الخليفة المستنير.
واعتناء أسلافنا بالفهارس وقوائم الكتب التي تدل على موضوع الكتاب ومؤلفه، يجده المرء أينما بحث في التراث العربي الإسلامي. وتحدث مُفكرونا الكبار عن الكتب، وفوائدها. وسجل لنا الجاحظ، هذا العملاق الفذ، كلمات عن الكتاب تكفي للدلالة على ما وصل إليه الأسلاف من بُعد شأو في هذا الجانب الحضاري المهم: «الكتاب وعاء مُلِئَ علماً، وظرف حُشي ظُرْفاً، وإناء شُحن مزاحاً وجداً؛ إن شئت كان أعيا من «باقل»، وإن شئت كان أبلغ من سحبان وائل (1)، وإن شئت سرتك نوادره، وأشجتْك مواعظه، ومن لك بواعظ مثله، وبناسك فاتك، وبناطق أخرس، ومنْ لك بشيء يجمع لك الأول والآخر، والناقص والوافر، والخفي والظاهر، والشاهد والغائب، والرفيع والوضيع، والغث والسمين؟ وبعد: فما رأيت بستاناً يُحمل في رُدْن (2)، وروضة تُقل في حجر، وناطقاً ينطق عن الموتى، ويُترجمُ عن الأحياء، وَمَنْ لك بمؤنس لا ينام إلا بنومك، ولا ينطق إلا بما تهوى؛ آمَنُ من الأرض، وأكتم للسرّ من صاحب السرّ، وأحفظ للوديعة من أرباب الوديعة».
ونجد كل هذه الفوائد مجتمعة، اختصرها أبو الطيب، شاعر العربية الكبير، في بيت من الشعر:
أعزّ مكانٍ في الدُنى سرج سابح
                     وخير جليس في الزمان كتابُ
وبعد المتنبي، قال «أمير الشعراء» أحمد شوقي كلاماً لا يقل روعة وبلاغة عن بيت أبي الطيب:
أَنا مَن بَدَّلَ بِالكُتبِ الصِحابا
                     لَم أجِد لي وافِياً إِلا الكِتابا
صاحِبٌ إِنْ عِبتَهُ أَو لَم تَعِبْ
                  لَيسَ بِالواجِدِ لِلصاحِبِ عابا
صُحبَةٌ لَم أَشكُ مِنها ريبَةً
                        وَوِدادٌ لَم يُكَلِّفني عِتابا


(1) باقل وسحبان: رجلان من العرب، اشتهر أولهما بالعي والآخر بالبلاغة.
(2) رُدن: قماش مغزول من حرير.

[email protected]


التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"