الخُنّس

القسم الإلهي
03:21 صباحا
قراءة 4 دقائق

من أسرار البلاغة وفنون العلم التي جاءت في القرآن الكريم، ويجدر بكل مسلم التفكر فيها، والتدبر في معانيها، القَسم في القرآن. والمتتبع لآيات القسم في القرآن الكريم يجد أن الله سبحانه أقسم في بعضها بذاته الموصوفة بصفاته وأقسم بآياته ومخلوقاته وبمظاهر الكون، ويوم القيامة، لتهيئة السامع، وإعداده إعداداً صالحاً لما يأتي بعد القَسم.

يأتي ذكر القسم تأكيداً، لا سيما والقرآن أنزل بلغة العرب، الذين عهدوا على إثبات مطالبهم بالحلف واليمين والقسم، إذ كانوا يقطعون كلامهم بالقسم، بهدف تحقيق الخبر وتوكيده.

قال تعالى:«فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ». (سورة التكوير، الآيات15-21).

صيغة «لا أقسم» يرى المولى فيها أن المقسم عليه لا يحتاج تأكيده وإثباته، للقسم بما هو مقسم به. لذلك يتعالى عز وجل عن القسم، ويعلن ذلك تأكيداً لعلو مكانة المقسم عليه عن المقسم به.

ورد هذا القسم في الآيات من الخامسة عشرة وحتى الحادية والعشرين من سورة التكوير، وهي السابعة في نزول السور والحادية والثمانون بالمصحف الشريف، وهي مكية وعدد آياتها تسع وعشرون.

هذه السورة ذات مقطعين تعالج في كل منهما تقرير حقيقة ضخمة من حقائق العقيدة. الأولى، حقيقة القيامة، وما يصاحبها من انقلاب كوني هائل كامل، يشمل الشمس والنجوم والجبال والبحار والأرض والسماء والأنعام والوحوش كما يشمل بني الإنسان. والثانية، حقيقة الوحي، وما يتعلق بها من صفة الملك الذي يحمله، وصفة النبي الذي يتلقاه، ثم شأن القوم المخاطبين بهذا الوحي معه، ومع المشيئة الكبرى التي فطرتهم ونزلت لهم الوحي.

ويذكر ابن قيم الجوزية في كتابه «التبيان في أقسام القرآن»: أقسم سبحانه بالنجوم في أحوالها الثلاثة من طلوعها وجريانها وغروبها، هذا قول علي، وابن عباس، وعامة المفسرين وهو الصواب.

والخنّس: جمع خانس، والخنس: الانقباض والاختفاء، ومنه سمى الشيطان خناساً لانقباضه وانكماشه حين يذكر العبد ربه، ومنه قول أبى هريرة «فانخنست». والكنّس: جمع كانس، وهو الداخل في كناسه، أي في بيته، ومنه تكنست المرأة إذا دخلت في هودجها، ومنه: كنست الظباء، إذا أوت إلى أكناسها.

والجواري: جمع جارية، كغاشية وغواشٍ، قال علي بن أبي طالب،رضي الله عنه: النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل، وهذا قول مقاتل وعطاء وقتادة وغيرهم، قالوا: الكواكب تخنس بالنهار، فتختفي ولا ترى، وتكنس في وقت غروبها، ومعنى تخنس، على هذا القول، تتأخر عن البصر، وتتوارى عنه بإخفاء النهار لها وفيه قول آخر، وهو أن خنوسها رجوعها، وهو حركتها الشرقية، فإن لها حركتين، حركة بفعلها وحركة بنفسها، فخنوسها حركتها بنفسها راجعة، وعلى هذا فهو قسم بنوع من الكواكب، وهى السيارة، وهذا قول الفراء، وفيه قول ثالث، وهو أن خنوسها وكنسها اختفاؤها وقت مغيبها، فتغيب في مواضعها التي تغيب فيها.

ولما كان للنجوم حال ظهور، وحال اختفاء، وحال جريان، وحال غروب، أقسم سبحانه بها في أحوالها كلها، ونبّه بخنوسها على حال ظهورها لأن الخنوس والاختفاء بعد الظهور، ولا يقال لما لايزال مختفياً: إنه قد خنس، فذكر سبحانه جريانها وغروبها صريحاً، وخنوسها وظهورها، واكتفى من ذكر طلوعها بجريانها الذي مبدؤه الطلوع، فالطلوع أول جريانها.

تضمن القسم طلوعها، وغروبها وجريانها، واختفاءها، وذلك من آياته ودلائل ربوبيته.

وفي قوله تعالى «والليل إذا عسعس» اختلف في عسعسة الليل، هل هي إقباله أم إدباره؟ فالأكثرون على أن «عسعس» بمعنى: ولّى وذهب وأدبر، هذا قول علي وابن عباس وأصحابه. قال الحسن: أقبل بظلامه، وهو إحدى الروايتين عن مجاهد.

ومن رجح الإقبال قال: أقسم الله سبحانه وتعالى بإقبال الليل، وإقبال النهار، فقوله: «والصبح إذا تنفس».(سورة التكوير، الآية18)مقابل الليل إذا عسعس قالوا: ولهذا أقسم الله ب«والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى». (سورة الليل الآيتان1،2) وبالضحى، قالوا: فغشيان الليل نظير عسعسته، وتجلّي النهار نظير تنفس الصبح، إذ هو مبدؤه وأوله.

ومن رجح أنه إدباره احتج بقوله تعالى: «كلا والقمر والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر» سورة المدثر الآيات (32-34) فأقسم بإدبار الليل وإسفار الصبح، وذلك نظير عسعسة الليل، وتنفس الصبح، قالوا: والأحسن أن يكون القسم بانصرام الليل، وإقبال النهار، فإنه عقيبه من غير فصل، فهذا أعظم في الدلالة والعبرة، بخلاف إقبال الليل وإقبال النهار، فإنه لم يعرف القسم في القرآن بهما، ولأن بينهما زمناً طويلاً، فالآية في انصرام هذا وجيء الآخر عقيبه بغير فصل أبلغ، فذكر سبحانه حالة ضعف هذا، وإدباره، وحالة قوة هذا وتنفسه، وإقباله يطرد ظلمة الليل بتنفسه، فكلما تنفس هرب الليل وأدبر بين يديه، وهذا هو القول.

وقوله «إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين» القسم إذن على طبيعة الوحي، وصفة الرسول الذي يحمله، والرسول الذي يتلقاه، وموقف الناس حياله وفق مشيئة الله. إن هذا القرآن وهذا الوصف لليوم الآخر، لقول رسول كريم، وهو جبريل الذي حمل هذا القول وأبلغه، فصار قوله باعتبار تبليغه. يذكر صفة هذا الرسول، الذي اختير لحمل هذا القول وإبلاغه، «كريم» عند ربه، فربه هو الذي يقول، «ذي قوة»، مما يوحي بأن هذا القول يحتاج في حمله إلى قوة. «عند ذي العرش مكين» في مقامه ومكانته، وعند من؟ عند ذي العرش العلي الأعلى «مطاع ثم» هناك في الملأ الأعلى «أمين» على ما يحمل وما يبلغ وهذه الصفات في مجموعها توحي بكرامة هذا القول وضخامته وسموه كذلك وارتفاعه، لذلك فهو لا يحتاج لما هو مقسم به.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"