بغداد.. منارة بين دجلة والفرات (1)

مدينة المنصور «المدورة»
02:40 صباحا
قراءة 4 دقائق

بغداد.. عاصمة العراق وأكبر مدنه، وهي أيضاً ثاني أكبر مدن الشرق الأوسط، تقع على نهر دجلة، وهي مدينة عريقة يعود تاريخ إنشائها إلى عهد أبي جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين 145 ه (762م). يقول د. طاهر مظفر العميد في كتابه «بغداد مدينة المنصور المدورة»: بعد أن قضى العباسيون على الحكم الأموي، وإعلان قيام دولتهم، أعدت مدينة «الهاشمية»، لتكون العاصمة الأولى للدولة الجديدة، وظلت حاضرة الدولة، حتى تقلّد الخليفة العباسي الثاني «أبوجعفر المنصور» مقاليد الخلافة عام 145ه.
اعتزم المنصور إقامة عاصمة جديدة لحكمه، فلما همّ باختيار موقعها أخبر أصحابه: أريد موضعاً ترتفق به الرعية ولا تغلو عليها فيه الأسعار، ولا تشتد فيه المؤونة، فإني إن أقمت في موضع لا يُجلب إليه من البر والبحر غلت الأسعار، واشتدت المؤونة وشقّ ذلك على الناس، فأشار عليه بعض الحاشية، اجعلها على الصراة بين دجلة والفرات، فإذا حاربك أحد، كان النهران خنادق لمدينتك، كما أن «الميرة» تأتيك في دجلة من «ديار بكر» تارة، ومن الهند والصين والبصرة تارة أخرى، وتأتيك في الفرات من الرقة والشام، كما تأتيك من خراسان وبلاد العجم، وأنت يا أمير المؤمنين بين أنهار لا يصل عدوك إليك إلا على قنطرة أو جسر، وأنت متوسط للبصرة والكوفة، وواسط والموصل والسواد، وأنت قريب من البر والبحر والجبل.
تأمل المنصور العبارة التي رسّخت عزمه على بناء المدينة الجديدة؛ لتكون مقراً لخلافته ومعسكراً لجنده، ومكاتب لدواوينه، فقال: مررت في طريقي بموضع اجتمعت فيه هذه الصفات، فأنا راجع إليه، وبائت فيه، فإن أدركت فيه ما أريد من طيب الليل فهو موافق لما أرغب لي وللناس، فأتى موضع قرية قديمة عُرفت باسم «بغداد» وقرّر بناء عاصمة فيها.

طرق التجارة

أحضر أبوجعفر المنصور، المهندسين والحرفيين من أهل الصناعة والبناء، ومن أهل الفضل والأمانة والفقه والعدل، والعلم بالذراع والمساحة وقسمة الأرض، ووضعهم في صورة المدينة التي يعتزم إنشاءها، فأقروا بناء العاصمة في موقع بغداد القديمة؛ لأسباب عديدة بينها: موقعها الاقتصادي على طرق التجارة الرئيسية القادمة من البحر وعلى امتداد النهر، وأرضها الخصبة المناسبة للزراعة بفضل النهرين، ومناخها الطبيعي الملائم لإقامة القصور الشامخة والحدائق الناضرة.
وما لبث المهندسون أن استدعوا آلاف العمال المهرة من الصنّاع والحفارين والنجارين والحدادين وسواهم، فأجرى عليهم الأرزاق، ثم بدأوا بتنفيذ مخططات البناء التي رسمها خمسة من مشاهير المهندسين بإشراف الحجاج بن أرطأة. كانت البداية عام 145ه؛ إذ تقرر أن تُقام المدينة على شكل دائرة محيطها (16 ألف ذراع) وقطرها (5093 ذراعاً)؛ بهدف تخفيض كلفة بناء السور؛ لأن محيط المساحة المدورة يقلّ طوله عن محيط مساحة مربعة مساوية لها بنحو (11.37%).
خُطّت المدينة بالرماد أولاً، وصُنِعت على تلك الخطوط كرات من القطن، وصبّ عليها النفط وأشعِلت لتبرز بشكل واضح، ثم تم حفر الأساسات، ووضع أبوجعفر المنصور بنفسه أول لبنة في البناء وهو يردد: باسم الله والحمد لله والأرض لله يورّثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
ويقول ابن الفقيه الهمداني فى كتابه (البلدان): عُرفت المدينة الجديدة بعدة أسماء فهي: المدينة المدوّرة، ومدينة المنصور، والزوراء، ودار السلام، تفاؤلاً بالسلامة في الحياة والنجاة من الأعداء، لكن غلب اسم بغداد على الألسنة، وبقي خالداً على مر العصور.
قُسمت المدينة إلى أربعة أقسام رئيسية، بشوارع عريضة، امتدّت لتصل بين كل بابين من أبوابها الأربعة، واحتوى كل قسم على عدة شوارع فرعية ودروب ضيقة. وكانت الأقسام تلتقي عند مركز المدينة (الدائرة).. وأحيطت بخندق واسع، وأسوار ضخمة، فتحت فيها أربعة أبواب متقابلة: الباب الشرقي (خراسان) يقابله غرباً (الكوفة) وفي الجنوب (البصرة) والباب الشمالي هو (الشام). وكانت في وسط المدينة رحبة مدورة واسعة في وسطها قصر الخليفة الذي سماه قصر الذهب، وسمى بابه باب الذهب، وأنشأ مسجداً واسعاً ملاصقاً له، وكانت مساحة القصر أربعمئة ذراع في أربعمئة، وبلغت مساحة المسجد بنحو مئتين في مئتين، وكان في صدر القصر إيوان يصل طوله إلى ثلاثين ذراعاً.

سور الرحبة

يقول ابن الفقيه الهمداني فى كتابه (البلدان): لم يسمح المنصور لرجاله بأن يبنوا دورهم ملاصقة للسور الكبير أو سور الرحبة المركزية، ولهذا فقد كان يلي السور حلقة عريضة خالية من الأبنية تماماً لتكون طريقاً. وأتم المنصور بناء السور والفراغ من الخندق وإحكام جميع أمر المدينة سنة تسع وأربعين ومئة، وأقبل الناس على السكن في جوارها، واتسعت قرية الكرخ التي كانت في جنوب المدينة، وصارت تُعرف باسم محلة الكرخ، وكان يمر بالقرب منها نهر الرخيل، واتصلت عمارة الكرخ وأسواقها بقرية سونايا التي سُميت بالعتيقة.
وأنشئت محلة الحربية في الناحية الشمالية الغربية، ومحلة الشارع في الناحية الشرقية، ومحلة باب التبن والقطيعة الزبيدية في أقصى الشمال، ثم إن المنصور عزم على أن ينشئ محلة كبيرة في الجانب الشرقي من بغداد المدورة، وبدأت العمارة فيها سنة 152ه وانتهت سنة 157ه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"