قراءة المقال.. موضة قديمة

02:50 صباحا
قراءة 6 دقائق
القاهرة: مدحت صفوت

إن غياب أو حضور ناثر عربي كبير، لا ينفصل عن تطور الكتابة المقالية العربية من جهة، ولا عن التطورات السسيوثقافية التي مرّت بها المجتمعات العربية من جهة أخرى. والسؤال الذي نطرحه عن غياب النثر الفني العربي، ليس وليد الفراغ، ولا نتاج التباكي على ما نفتقده في تاريخ الكتابة العربية، بقدر ما هو تساؤل عن غياب ما كان موجوداً ومتوفراً في الأدب العربي؛ بل يمكن القول بشيء من الاطمئنان بأنه أحد الفنون الضاربة جذورها في تاريخ العربية، ولعلنا هنا نذكر عمرو بن بحر المعروف باسم «الجاحظ»، وما تركه في النثر الفني.

مع دخولنا في العصر الحديث، انتشرت من جديد الكتابات النثرية، خاصة مع البعثات التعليمية التي أرسلها محمد علي باشا، لكنّ الكُتاب لم ينفكوا يكتبون مقالاتهم فترة ليست باليسيرة في موضوعات تحفل بالعبارات المسجوعة، والألفاظ الغثة التي لا تكاد تنأى عن العامية، أو تخلص من الألفاظ الأجنبية في صور متكلفة، وإن لم يخلُ بعضها من التجديد كما هو الحال في كتابات الشيخ حسن العطار وتلميذه رفاعة الطهطاوي، الذي حاول بعد أن أثمرت توجيهات شيخه وحركة ابتعاثه إلى أوروبا وقيامه بعديد من الترجمات، أن يتخلص من كلفة المحسنات على أنه لم يتخلص من ذلك دفعة واحدة.

وفي الفترة التالية للطهطاوي، بدأت الحركة الصحفية تنشط وتنتشر، وتتحول الصحافة من الصبغة الرسمية لنشر الفرمانات والقرارات الخديوية، إلى الاشتباك مع قضايا السياسة وأحوال المجتمع. لكن ومع الاحتلال البريطاني لمصر في العام 1882، وفرض الوصاية الغربية على عدد من البلدان العربية أخمدت أنفاس الصحافة لأقل شبهة في معاداة الإنجليز أو السلطات القائمة والتابعة للاحتلال، فمُنعت «العروة الوثقى» من دخول مصر، كما ألغيت صحيفتا «الوطن» و«مرآة الشرق»، وعُطلت جريدة «الأهرام» في كثير من الأوقات.

ومع ذلك، لعبت الصحافة دوراً رئيسياً وبارزاً في إنعاش الكتابة النثرية، خاصة مع اندلاع ثورة 1919، ونحت الكتابات المقالية نحو معالجة ما يكتنف الحياة آنذاك من اضطرابات فكرية، ولا تقل في حدتها عن ثورة الشعب ومعركته مع العدوان والفساد، وهنا تظهر أسماء محمد حسين هيكل، ومصطفى صادق الرافعي، وزكي مبارك، وطه حسين، وعباس محمود العقاد، وتوفيق الحكيم، حتى إن نجيب محفوظ بدأ حياته الإبداعية كاتباً للمقالات الفلسفية التي نشرها سلامة موسى في «المجلة الجديدة».

وجوه ستينية

مع الخمسينيات من القرن العشرين، بدأت حركات التحرر الوطني في الظهور والبزوغ، ومن ثم بدأت النظم في بناء مشروعات وطنية، وإعادة ترميم الطبقة الوسطى التي تعد حاملة وحامية الثقافة والفكر في بنية المجتمعات الحديثة.

وشهدت بعض المدن العربية زيادة واضحة في الصحف والمؤسسات والدوريات، وتوسعات كبيرة في بنية المؤسسات الثقافية، وارتفاعاً ملحوظاً في دور العرض السينمائي، ومن ثمّ نمت على نحو أكثر وضوحاً الاهتمامات الشعبية بالثقافة والاطلاع المعرفي، فظهرت أسماء جديدة من كُتاب المقالات أمثال محمد سعيد العريان، ويوسف السباعي، وخالد محمد خالد، ومصطفى أمين وعلي أمين، وأنيس منصور، وجمال حماد، وزكي نجيب محمود، ورجاء النقاش، وأحمد الصاوي مؤسس باب «ما قل ودل» بجريدة الأهرام، وغيرهم.

واتسمت كتابة المقالة بالانحياز إلى ما عُرف وقتها ب«اللغة الموضوعية المختصرة الواضحة»، وبدت واضحة بعض الخصائص في النثر المقالي كالاختصار والإيجاز من خلال التخلص من الحشو الذي لا يلائم عصر الستينات، والابتعاد عن الغموض والتعقيد، والاعتماد على الركون إلى الجمال اللغوي والأدائي الجذاب للمتلقي والمؤثر دون تكلف أو جمود، كذلك التوازن بين العناصر السابقة، وغيرها مما يتصل بفن المقال وتنوعه على مستوى الشكل والموضوع.

وخلال هذين العقدين، مثلت القراءة مصدراً عظيماً للمعلومات والمعرفة على الإطلاق، وبات الاطلاع ضرورة ووسيلة للترقي الاجتماعي، وشرط تحسين مهارات الاتصال وأساس التقدم في شتى مناحي الحياة، مما أثر إيجابياً في الكتابة النثرية، واهتمام الكتاب بتطوير أساليبهم.

أزمة الصحافة الثقافية

إذن ارتبط فن المقال بالصحافة والمطبعة، والمقال الأدبي مرهون بحال الصحافة الثقافية، رهناً طرديّاً، كلما ازدهرت الصحافة انتعشت الكتابة المقالية، والعكس صحيح. بالتالي تنعكس أزمات الصحافة العالمية بصفة عامة، والصحافة الثقافية العربية على نحو أخص، على حال المقال والنثر الفني.

مؤكد أنّ حال الإعلام الثقافي الآن لا يرضي العاملين فيه ولا المتابعين، ومع ذلك ثمة محاولات يومية تقريباً لتحريك المياه الراكدة، ليصبح السؤال مشروعاً، «هل هناك حاجة فعلية لهذه المنابر الإبداعية؟، وهل ستشكل إضافة ثقافية ونقدية وتكون قادرة فعليّاً على استقطاب جيل استلبته وسائل الإعلام الجديد وتقنياته؟».

في مصر، تعاني الإصدارات والدوريات الثقافية من عدم الانتظام في الصدور، حتى تلك التي تصدر عن جهات حكومية، فمثلًا مجلة «فنون» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، سبق أن اشتكى رئيس تحريرها الدكتور حاتم حافظ مرات من عدم انتظام طباعتها على نحو شهريّ، الأمر الذي وصل أنه خلال ثلاث سنوات مضت على توليه رئاسة تحرير الدورية الفنية لم يستطع أن يصدر سوى 20 عدداً أي تأخر الإصدار بنحو 16 عدداً، وهو رقم يكشف عن مدى التخبط الذي تلاقيه مطابع وزارة الثقافة.

xومع الأزمات المادية التي تضرب أغلب البلدان العربية تتعثر المشروعات الثقافية، وتتراجع أعداد الدوريات والإصدارات، ويصبح سؤال الكاتب مشروعاً: أين يمكن نشر الكتابة المقالية؟ والمقالات الأدبية على وجه الدقة؟.

مواقع التواصل

في الوقت الذي يشهد عدد الصحف والدوريات الثقافية تراجعاً، يتناقص من جهة ثانية الزمن المستغرق من جانب الأفراد في قراءة المقالات الأدبية، وربما قراءة الكتب بشكل عام، ويبدو للبعض أن قضاء الوقت على منصات التواصل الاجتماعي أفضل كثيراً من «إضاعتها في القراءة».

لا يمكن أن نغفل هنا أن منصات التواصل قد تصبح أيضاً وسائط لنشر المقالات الأدبية، كما أنها وسائط معرفة أيضاً لا تقل أهمية عن الوسائط التقليدية أو المتعارف عليها، لكنّ حديثنا هنا عن النثر الفني وعوامل ازدهاره أو تراجعه، من بينها المطالعة للكتابات اللغوية التي تعتمد على التشكيل اللغوي والجماليات البلاغية.

إذن الأزمة «أزمة مقروئية» بالأساس، كما هي أزمة كتابة، لكن يظل النشاط القرائي هو الوقود لتنمية الكتابات بشكل عام، بخاصة الكتابات الموجهة للجمهور العام، الذي يعيش جملة من المتغيرات العصرية والثقافية والاجتماعية، خاصة مع شيوع تصورات ما بعد الحداثة عن الإنسان وذاته وعلاقاته بالآخرين من جهة، وإعادة تعريف الفنون اللغوية والأدبية وتراجع دور الجمالي لصالح القيمي المادي، وتفضيل الكتابات التي تصيب «هدف المعنى» وقصدية الخطاب على نحو مباشر خالٍ من الزخرف اللغوي واستعمال الاستعارات وما شابهها من تقنيات جمالية وبلاغية.

جراء ما شهدته المجتمعات الإنسانية الحديثة، والعربية على وجه أخص، بدا «اللاانسجام» هدفاً، يبحث عنه الفرد في شتى مجالاته اليومية، ومن بينها الكتابات التي يتلقاها على نحو دوري ومتكرر، الأمر الذي جعل من فكرة المقال الأدبي المنثور «بلغة رفيعة» فكرة مضحكة أكثر من كونها فكرة جذابة، وصارت هذه الكتابات عاملًا للسخرية والتندر لا مجالاً للفخر والإشادة.

وتلعب القراءة دوراً حاسماً في التنمية الشاملة للفرد والأمة بشكل عام، دونها لا يمكن تنمية قدرة التفكير وبناء الشخصية وتوسيع مدارك الفكر. فيما يميل الأطفال والشباب والكبار على حد سواء في الوقت الراهن إلى استخدام التكنولوجيا للحصول على المعلومات، وأدى ظهور الإنترنت إلى تغيير غير مسبوق في وسائط النشاط القرائي، وجرى تحويلها بشكل مختلف إلى مواقع الويب وصفحاته والكتب والمجلات والأوراق والرسائل الإلكترونية، وغرف الدردشة ومدونات المراسلة الفورية وغيرها.

واعتاد الناس على تصفح الإنترنت كعادة يومية، ونوع من الإدمان للجيل الجديد، على العكس من ذلك، ثمة آراء تشير إلى أن البعض لا يزال يعتقد أن قراءة الكتب، وليس تصفح الإنترنت، هي أفضل طريقة يمكن للمرء من خلالها السفر في عالم المعرفة والمتعة.

إن الجيل الحالي، خاصة طلاب الجامعات، على دراية جيدة بالتكنولوجيا الجديدة وتطبيقاتها في المجتمع المترابط الشبكي فعليّاً. بالنسبة لهم، فإن قراءة الكتب من أجل المعرفة والاستمتاع هي فكرة قديمة مثلما يلاحظ الباحثان دونالد روبرت وأولا فوهر في كتابهما الصادر عن كامبريدج «الأطفال ووسائل الإعلام في أمريكا».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"