«الهرمجدونيون» قادمون

04:51 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. يوسف الحسن

لم تتنبه النخب السياسية والمجتمعية، لمخاطر التأويلات اللاهوتية وخطلها، والتي ينسبها «مسيحانيون متصهينون» إلى الدين المسيحي، من أجل تسويغ مواقفهم السياسية الداعمة للنظام العنصري الاستيطاني «الإسرائيلي».

اختزلت التيارات الإنجيلية المتطرفة، مفهوم الخلاص، خلاص الإنسان والعالم، في خلاص «إسرائيل» وعلى قاعدة مكتنزة بالأساطير والخرافات، وبرؤية مستقبلية حربية كارثية، تنتهي بحرب حتمية هي حرب «هرمجدون»، والتي لا تبقي ولا تذر، انتصاراً وإنقاذاً، هكذا تقول الرؤية، لشعب اختاره «الرب»، وهو نفسه «الرب» الذي سيكون بجانب الذين يدعمون ويمولون ويدافعون عن «شعبه المختار»، في «الأرض التي أعطاها لهم» والتي تمتد من «نهر مصر إلى النهر الكبير».

قبل نحو ثلاثة عقود، نشرت أطروحتي للدكتوراه في كتاب صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان (البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي «الإسرائيلي»).

وفي العام 2002، نشر مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، نص محاضرة لي في المركز، في كتاب حمل العنوان «جذور الانحياز: دراسة في تأثير الأصولية المسيحية في السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية»، وكنت قد قدمت تلك المحاضرة في مساء يوم الثلاثاء الموافق الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وهي ليلة التفجيرات الإرهابية التي ضربت برجي مركز التجار العالمي في نيويورك، ومباني حكومية أمريكية أخرى، وقتل فيها وأصيب آلاف البشر، وأعقبتها حروب أمريكية في أفغانستان والعراق، وأثارت دوامات من العنف الدموي، وفوضى مازالت مشتعلة حتى اليوم، وخلقت أحداثاً سياسية وعسكرية غيَّرت مجرى تاريخ شعوب وأقاليم كثيرة.

مصادفة غريبة، أن أتحدث عن البعد الديني في السياسة الخارجية، وعن قوى وتيارات منظمة ومتطرفة، هنا وهناك، في يوم التفجيرات، لكن من أسف، فإن إدارة الظهر لمخاطر البعد الديني في الحروب والسياسيات، وبخاصة إذا كانت حمولته الإيمانية مليئة بالأساطير والتأويلات والخرافات، وبالعنف والإذعان والعنصرية.

لا يحتاج المرء إلى كثير من العناء، ليدرك أن تغليب البعد الديني في سياسات الجماعات السياسية أو الدول، الصغرى والكبرى على حد سواء، يزعزع قواعد النظام الدولي، ويهز أخلاقيات الديمقراطية، ويمهد لزلازل تُغِّير حتى الطريقة التي اعتاد العالم التفكير فيها طوال القرون السابقة، حول السياسة والحدود والسيادة والفكر والقيم والقانون الدولي الإنساني والتعايش السلمي بين البشر والأقوام والملل والنحل.

عدت في الأيام الأخيرة إلى إعادة قراءة للكتابين المذكورين، مستحضراً لقاءات ومناظرات وندوات حول هذا الموضوع، وكيف كان «سياسيون عرب» وعلماء، يبدون جهلاً أو تبسيطاً مخلاً في إدراك جذور وكُنه هذه التيارات العنيفة والمتعصبة، وخطرها الداهم على أرواح البشر، وعلى العلاقات السلمية المتبادلة بين أتباع الأديان والمعتقدات المعتبرة والثقافات المختلفة، وعلى حقوق الإنسان وكرامته والتي هي قيمة أسبق من كل انتماء أو هوية حضارية، وهي حصانة أولية للإنسان، ثابتة له بوصفه إنساناً، كرَّمه خالقه وجعله خليفة له في أرضه.

استحضرت فترة الصعود الثاني لهذه التيارات اللاهوتية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الابن، حينما كانت القوة المؤثرة مع اليمين المتطرف الجديد، في قرار غزو العراق واحتلاله في العام 2003، وتأسيس نظام سياسي طائفي أدمى العراق وهدر موارده، وسلم مفاتيحه لليد الإيرانية، وأكلافه من الضحايا لا تحصى.

تذكرت أيضاً فترة الصعود الأولى لهذه التيارات في عهد الرئيس الأسبق ريجان، وبخاصة تنامي قوة وتأثير «الكنيسة الأصولية المتطرفة المرئية» والتي امتلكت ثروات هائلة ومحطات تلفزة وجامعات أبرزها «جامعة الحرية» للقس جيري فولويل، وأسست جماعات ضغط نشطة دعماً ل«إسرائيل»، ومؤسسات ومنظمات تفوقت بقدراتها وإمكانياتها وتأثيرها على اللوبي اليهودي المعروف «إيباك»، ورأت في قيام دولة «إسرائيل» وتجمع يهود العالم فيها، واحتلال القدس، واعتبارها عاصمة أبدية هي علامات على أن «نبوءات التوراة صارت حقيقية» وإشارات لاقتراب «نهاية الأزمنة» واقتراب العودة الثانية المنتظرة للمسيح عليه السلام!!

واليوم، حينما نقف وقفة تأمل وفحص لفكرة «صفقة القرن»، وتمحيص لآليات عرضها، وما ورائيتها وتناقضاتها وأهدافها، وتلك السحب الداكنة التي تظلل الفكرة، في محاولة لطمس تاريخ شعب عربي، وانتهاك حقوقه، فضلاً عن سعي محموم وشائن لإلغاء شرعة القانون الدولي، والقرارات الدولية، يتبين أن العواقب ستكون وخيمة، حينما يسيطر اللاهوت المتعصب والمعبأ بالأساطير على مفاصل صناعة القرار في السياسة الخارجية الدولية، وأن مثل هذه التوجهات والمرويات والافتعال اللاهوتي لا يخدم في نهاية المطاف إلا غلاة التطرف الصهيوني، ويؤجج الصراعات في الشرق الأوسط.

«صفقة القرن» ليست مضرة ومؤذية لفكرة السلام فحسب، لكنها ستفتح الأبواب أمام نبوءة «حرب هرمجدون العظيمة»، وبالتأكيد هي أمر غير أخلاقي وغير حصيف وتتناقض مع الإيمان المسيحي الصحيح، ولا يقل تصرف أصحاب الصفقة الجائرة عن تصرف اللاوي في قصة السامري الصالح، الذي مَرَّ على المجروح المطروح أرضاً (الفلسطيني) ولم يكترث له، وتركه يصارع الموت (إنجيل لوقا 32:10).

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"