الحفيد الضال

01:54 صباحا
قراءة 3 دقائق
كتب:  إيهاب عطا

تحفل ساحات المحاكم وحياة الأطراف التي تلتقي فيها بقصص تعكس في جانب منها الصراعات القديمة المتجددة بين الخير والشر، بين الطمع والقناعة، بين نفوس ترتوي بظلم الآخرين وأخرى تنفق شهوراً، وربما العمر كاملاً، بحثاً عن حق. في تفاصيل هذه الصراعات تحاول العدالة ما استطاعت أن تكون صاحبة الكلمة العليا لتستقيم الدنيا، وفي ثنايا المواجهات بين الأطراف المتخاصمة تتدفق المفاجآت والعبر.
لم يكن هناك يوم أسعد على أسرة «خ» من ذلك اليوم الذي ولد فيه بعد طول انتظار، لدرجة أن جدته لوالده طلبت من ابنها الوحيد «م» وهو والده أن يتزوج من أخرى؛ لتنجب له البنين والبنات؛ لكن والده أبى إلا أن يصبر ويدعو الله أن يرزقه الذرية الطيبة، واستجاب الله لدعائه، ورزقه بالطفل «خ»، وكانت الجدة «س» هي الأم الحقيقية للمدلل «خ» الذي تعهدته بالتربية والعناية على الرغم من أنها تسكن في فيلا منفصلة عن أسرة ابنها؛ لكن لا يكاد يمر يوم من دون أن تتصل؛ للاطمئنان على «خ» الذي كبر وصار ملء السمع والبصر، وربما كان كل هذا سبب تلك اللعنة التي أصابت «خ» وجعلته يتحول إلى العكس تماماًَ؛ فالإفراط في الدلال يأتي في أغلب الأحيان بأثر عكسي.
لم يكن «خ» قد أنهى دراسته الجامعية، عندما أعلن أنه سيسافر في الصيف القادم إلى الدولة رقم 30 من بين دول العالم التي زارها، فهو مغرم بالسفر وإجازة الصيف يمضيها متنقلاً بين دول العالم، وكانت الدراسة لا تشغله بقدر ما يحرص على النجاح بأقل تقدير، ووالده وجدته يغرونه دائماً بالمكافآت، فمجرد نجاحه أصبح هدفاً أسمى يتمنى الجميع من «خ» أن يحققه، فقد كان يعاني ويعاني معه كل أفراد أسرته الأمرين خلال سنوات الدراسة الأولى؛ حيث كانت مشكلته صعوبات التعلم، وبعض المدرسين تنبأوا بفشله، وحذروا أهله من الاستمرار في هذا القدر من الدلال.
كانت النتيجة الحتمية للتربية والتنشئة الخاطئة لهذا الابن «الضحية» هي دخوله حياة اللهو والصخب والمجون؛ حيث يصبح صديق السوء بديلاً للأب، وتصبح الصديقة المقربة بديلة للأم، ويصبح الرابط الوحيد بينه وبين أفراد أسرته هو المال.
لاحظ الجميع وخاصة الجدة التغير الذي طرأ على «خ»، وواجهوه مراراً وتكراراً ونصحوه بالابتعاد عن صحبة السوء، وأن يدرك ما بقي له من حياة الجدية والتطلع إلى حياة مستقرة؛ لكنه أهمل نصحهم، وبدأت العلاقة بينه وبين والديه وجدته تتوتر وتأخذ منعطفاً جديداً يصل إلى المشادات الكلامية حول سلوكاته وأصدقائه وكذلك مصروفه المتضخم، فلم تعد تكفيه عشرات آلاف الدراهم كمصروف شهري؛ بل أصبح يطلب بين الحين والآخر مئات الآلاف أو مليوناً أو مليونين؛ لشراء سيارة أو قضاء رحلة جماعية مع أصدقائه، وهنا اتخذ الجميع وهم لا يعلمون أنه دخل عالم إدمان المخدرات قراراً بالتصدي لتصرفات «خ» والوقوف في وجهه لعلهم يتداركون ما يمكن تداراكه وقرروا أن يقللوا مصروفه وتعمدوا التعامل معه بصلابة.
سافرت الجدة «س» خارج الدولة للعلاج؛ بسبب مشكلات في قلبها، ولم يجد «خ» فرصة أفضل وأسهل من هذه لاقتحام فيلا جدته وسرقتها، فهو يعرف كل شيء عنها.. يعرف مكان الخزينة التي تضع فيها الجدة مبالغ كبيرة ومجوهراتها وذهبها ويعرف موضع مفتاحها، وهكذا تمكن من سرقة مبلغ 200 ألف درهم، وبعض قطع الذهب التي باعها لأحد محال الذهب بسعر بخس، ولما طال غياب الجدة في الخارج كرر «خ» فعلته وسرق ضعف المبلغ هذه المرة لتعود الجدة وتكتشف السرقة وتبلغ عنها، وتكون المفاجأة التي كشف عنها التحقيق أن هذا الحفيد الضال هو السارق، وأمام القاضي اعترف «خ» بالسرقة وانتظر العقاب بعد أن نال درساً قاسياً خلال فترة حبسه.
أدركت الجدة «س» أن حفيدها «خ» بدأ يفيق من التيه الذي عاشه طوال تلك السنوات، وشعرت بأنه يريد أن يتغير بالفعل حين طلب منها الصفح عنه فقط ومشاعر الندم والحسرة تسيطرعليه حتى إنه أصبح لا يجرؤ على رفع عينيه أمام أحد من أهله، لكن الجدة تظل هي الأم الحقيقية له، فقد فاجأته بتوجهها إلى ساحة المحكمة على كرسيها المتحرك لتطلب من القاضي الرأفة تجاه حفيدها والعفوعنه مقدمة تنازلها عن الشكوى وآملة أن يكون حفيدها «خ» قد تعلم الدرس القاسي الذي مرغ فيه أنف الأسرة في الوحل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"