الكتابة تبحث عن مشروع أدبي

02:46 صباحا
قراءة 7 دقائق

(1)

تستدعي الكتابة عن الكتابة، أو، الكتابة في الكتابة أكثر من محور، أو أكثر من مفصل تؤدي معاً في الصورة المقترحة لمثل هذه الكتابة إلى اقتراح آخر. هو سؤال أساسي يتصل بالكتابة في حدّ ذاتها بوصفها جنساً أدبياً مستقلاً، والمقصود بالكتابة هنا «فن النثر» أو ما يسمى النثر الفني أو النثر الأدبي الذي يجري إرجاعه عادة إلى أصول قديمة مثل سجع الكهّان في الجاهلية وما قبلها، أو يجري إرجاعه إلى خطابات رسمية، إن جازت العبارة، وردت على لسان زعماء قبائل أو وصايا سادة قوم إلى أبنائهم، ولكن في رأيي الشخصي، وبخاصة عند العودة إلى «ديوان النثر العربي» الذي جمع مختاراته أدونيس، فإن هذه النصوص النثرية لحوالي 300 ناثر لا تشكل قاعدة لما هو مقصود من الكتابة، والمقصود هو النثر بوصفه جنساً أدبياً مستقلاً تماماً عن أي جنس أدبي آخر، وأيضاً النثر بوصفه مشروع كتابة مستقلة، كتابة حرّة قائمة بذاتها، ولذلك، رأيت أن مثل هذه الكتابة الآن تستدعي أكثر من محور، أو، أكثر من مفصل: النثر، الشعر، الكتابة بشكل عام،.. أيهما أسبق النثر أم الشعر، ثم ما المقصود بالكتابة؟ هل هي كتابة النثر، أم كتابة الشعر، أم كتابة الرواية، أم كتابة القصة أم كتابة الخاطرة؟ فهذه كلّها أشكال كتابية محددة في جنسها الأدبي، غير أن «مفهوم الكتابة» الذي أرمي إليه هنا هو أوسع من هذه الأشكال المحددة.

إن الكتابة هنا هي ما يتجاوز الشعر أو السرد الروائي أو القصصي، الكتابة تتجاوز الشكل النثري الذي يُرجع عادة إلى أصول اجتماعية أو زعامية أو نخبوية بمعنى القول الذي يصدر عن خليفة أو وزير أو رجل في الحاشية له اعتبارية شخصية بحكم موقعه في الدولة أو الحكم.

ما علاقة النثر أو «الكتابة» بوصفها جنساً أدبياً مستقلاً في خطب رجل سفاح مثل الحجاج أو مثل الكثير من دهاة العرب الملوّثة أيديهم بالدم؟

ما علاقة النثر أو «الكتابة» بوصفها مادة أدبية «مكتفية بذاتها» ببلاغات بعض رجال القضاء مثلاً؟، هل النثر يكون نثراً لمجرد أنه يقوم على عناصر البلاغة العربية من جناس وطباق وكناية وتشبيه واستعارة ومحسنات «بديعية معنوية ولفظية» وغير ذلك مما يسمى علم البيان؟

(2)

إن من يقرأ «ديوان النثر العربي» الذي جمعه أدونيس في أربعة أجزاء على غرار ديوان الشعر العربي «أربعة أجزاء أيضاً» يرى من باب المقارنة والاجتهاد أن هذا النثر لا يُشكل في زمانه قبل مئات السنوات «مشروعاً» أدبياً، ولا يشكل، بالتالي، قاعدة مرجعية مثل التي يحظى بها الشعر، وهنا، يلاحظ أن اهتمام أدونيس نفسه بمختارات النثر العربي، اهتمام فاتر أو بارد، وذلك لسببين أرى أنهما يؤيدان هذا الرأي.. السبب الأول أن أدونيس كان متحمساً للشعر أكثر من حماسته للنثر، فقد وضع «ديوان الشعر العربي».. الطبعة الأولى 1964 في مطلع شبابه، في حين أنهى مشروع مختارات ديوان النثر العربي «الطبعة الأولى» في عام 2012، والسبب الثاني وضع أدونيس مقدّمة طويلة مكتملة عميقة لديوان الشعر العربي، بينما في ديوان النثر العربي اكتفى بمقدمة «مدخل» من عشر صفحات موجزة، سريعة، ومع ذلك، فقد لا نستطيع أن نبني رأياً موضوعياً حول حماسة أدونيس للشعر، على حساب النثر لمجرد هذين السببين، وهو في كل حال أعطى رأياً مهماً في مسألة الثنائية التقليدية أي «الشعر- النثر» التي خاض فيها الكثير من الباحثين في الثقافة الأدبية الشعرية بشكل خاص، فقد رأى أدونيس في مدخله لمختاراته النثرية أن النثر العربي، في جوانبه الفنية كما يقول لا يزال قارة شبه مجهولة.. «لا يعود ذلك إلى هيمنة الشعر وحدها، يعود كذلك إلى سبب موضوعي: بنية النثر أقرب، تاريخياً، إلى مفهوم الكتابة. بنية الشعر أقرب تاريخياً إلى مفهوم الشفاهة. لا نستطيع مثلاً، أن نضع النثر في قوالب أو تفاعيل تسهل حفظه وروايته، كما هي الحال في الشعر. هكذا لا نستطيع أن نتناقله كما نتناقل الشعر..».

إن في قول أدونيس إن النثر لا يزال قارّة شبه مجهولة، في القرن الحادي والعشرين، وبعد أكثر من ألف عام على نثر الجاهلية وما قبلها وما بعدها.. إنما يعني بكل اطمئنان أن النثر بوصفه كتابة حرّة مستقلة في جنس أدبي مستقل لم يتبلور حتى الآن.

النثر، ولأربط دائماً هنا النثر بالكتابة تلك القارّة شبه مجهولة، أي ضمنياً أن نثر أبي حيان التوحيدي على سبيل المثال لا الحصر، لم يجعل منه قارّة معلومة أو معروفة، وإلا، فأين المجهول، وأين المعلوم في هذه «القارّة»؟.

من عبدالحميد الكاتب، إلى ابن العميد، إلى ابن المقفّع، إلى الجاحظ، مروراً بنثر متصوّفة مثل الحلّاج، وابن عربي،والسهروردي، والنفّري، ونثر «منظرين» عروضيين مثل الخليل بن أحمد الفراهيدي، إلى نثر خلفاء مثل هارون الرشيد والمهدي والهادي، إلى نثر «نقّاد» مثل الجرجاني، وابن المقفعّ، إلى نثر شعراء مثل أبي العلاء المعري، إلى نثر مفكرين وفلاسفة مثل الفارابي، إلى نثر مؤرخين مثل الطبري، إلى نثر امرأة متصوفة مثل رابعة العدوية، إلى نثر فيلسوف مثل أبو حامد الغزالي، إلى نثر أديب مثل أمين نخلة، وأديب عالمي مثل جبران خليل جبران.. وحتى نثر نزار قباني، ومحمود درويش، ومحمد الماغوط.. من أوّل هؤلاء إلى آخرهم، وغيرهم من ناثرين لا يزال النثر العربي قارّة شبه مجهولة، لا لأن هذا النثر «قليل» من حيث الكمّ، ولا لأن هذا النثر «عليل» من حيث الكيف، بل لأن النثر في حد ذاته ليس «مصطلحاً» إن أمكن القول، ولأن الناثر العربي لم يواصل الكتابة في إطار مشروع كتابي أو ثقافي متواصل، ولأن النثر أصبح أشتاتاً، فالناثر شاعر قصيدة نثر، وهو روائي أو راوية السرد القصصي، وهو الروائي، على أن هذه الأشكال الأدبية لها أنساق وسياقات وتجنيس ومصطلحات، فيما النثر، ككتابة، كمشروع، كجنس، غائب أو لنعد إلى توصيف أدونيس: «قارّة شبه مجهولة».

(3)

نعود الآن إلى تفصيلة متردّدة دائماً في الكتابة التي تقارب أو تقارن بين الشعر والنثر.. في السؤال المحدد: أيهما أسبق الشعر أم النثر؟

في رأيي، أو بالأحرى، في اجتهادي هذا القابل للنقد والنقض، ولكن قبل ذلك، القابل للحوار، فإن النثر سابق على الشعر، «.. كما أن الشعر سابق على الوزن والعروض والبحور..»، النثر هو الكلام الأول الذي سمعه الطفل من أمه، ومن محيطه العائلي، وثانياً محيطه الاجتماعي، وثالثاً، محيطه العالمي الكوني الإنساني.

ولد الشعر من ضلع النثر، أي من ضلع الكلام، لكن استقل في الوزن وتحوّل إلى غناء أو موسيقى بينما بقي النثر قولاً أو كلاماً، وتحول إلى كتابة.

أصبح الشاعر طللياً، «باكياً على الطلل»، وفي الغالب هو طلل الحبيبة الذي يلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد، ثم مدّاحاً في بلاطات الملوك والوزراء، ثم راثياً لموتاه ولموتى غيره، ثم أصبح الشاعر معتداً بنفسه وبقبيلته «شعر الفخر»، ثم أصبح الشاعر هجّاءً أو هاجياً مرتداً أحياناً على البلاطات التي كان قبل ذلك قد مدحها -نموذج المتنبي مثلاً الذي تنطبق عليه المدحية والرثائية والهجائية والاعتداد بالنفس في ما عدا «الطللية»- فالمتنبي ليس شاعر طلل، وإنما هو شاعر مدينة أو مديني متنقّل، ترحالي، معه خادمه، يحط ركابه في بلد، ولا يلبث أن يسافر إلى بلد آخر.

ليس المهم ترحال وشخصية المتنبي هنا، بل المهم ذلك النثر الذي استعاره من لغات أخرى، أي الاستعارة من الكتابة المدوّنة قبل قول الشعر.

تحوّل الشاعر من طللي إلى مداح إلى هجائي «وإلى آخره..»، غير أن الناثر الذي هو «الكاتب» لم يعرف مثل هذه التحوّلات، ويُخيل إلي أيضاً أن الناثر العربي لم يعرف الترحال، أو أنه نزيل «جبّته» وبيته، نزيل حرفته التي تقوم على النسخ والورق والحبر، إنه الورّاق الذي يعمل منقطعاً إلى ذاته كما لو أنه في «صومعة» أو في زاوية من زوايا المتصوّفة، فيما الشعر (ليس كاتباً في مثل هذه المقاربة) إنه «قوّال».. شخص يقول الشعر. شخص شفاهي في أحيان كثيرة، سريع البديهة، ولذلك، فهو يرتجل القصيدة في حضرة الخليفة الذي يصغي، ويقيّم ويقيس، ويُقارن، ويغوص في الكنايات، والرموز، والدلالات، وبسرعة أيضاً، وبناء على ذلك يشير بيده إلى الحاجب ليعطي الشاعر كيساً من الدراهم.

الناثر ليس له نصيب من كل ذلك، وقد يكون سريع البديهة مثل الشاعر، فيرتجل جملة أو عبارة في الغالب تذهب مثلاً أو تذهب حكمة، لكنه مع الزمن يُنسى بوصفه قائل هذه الحكمة، في حين لا يُنسى الشاعر ولا تُنسى القصيدة، ومرة ثانية يعمّر الشعر أكثر من النثر لأنه يقوم على الوزن والبحر والعروض.

كينونة

يستعير الشاعر من الناثر.. يستعير من «الكاتب». ويطمئن إليه، ويأخذ منه مستأنساً أو «مُسْتجدياً» الكتابة من دون أن تجرح كرامته مثلما جرحت عند بلاطات الملك الذي لم يأمر الحاجب بأن ينفح الشاعر كيساً من المال.. فيخرج الشاعر آسفاً، مجروحاً.. إلى صيغة أخرى من القول الشعري «الهجاء».

الكاتب لا يمرّ في القصة التي يمرّ بها الشاعر. ويظل نصّه النثري قارّة شبه مجهولة، شيء من هذا القبيل حدث في رواية أبي حيان التوحيدي «مصفاة النثر»، ولكي تظل هذه القارة مجهولة أو شبه مجهولة، أحرق أبو حيان التوحيدي، كتبه، في آخر حياته.. يقول: «إني جمعت أكثرها، يقصد كتبه، للناس لعقد الرياسة بينهم، ولمدّ الجاه عندهم، فحرمت ذلك كله.. ولقد اضطررت بينهم بعد العشرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يُحسن بالحر أن يرسمه بالقلم، ويطرح في قلب صاحبه الألم..».

الكتابة.. ليست في النهاية إمتاعاً، ومؤانسة، الكتابة ذات كينونة: بطولة، عشق، تطهّر، اكتمال، الكتابة إنسان فرد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"